القسم الثاني - مشاركون في الكنيسة

  • الشركة في الكنيسة وأدواتها
  • مكانة الرهبان والراهبات في الحياة الرعوية في أبرشياتنا
  • الأسرة المسيحية في مجتمعنا
  • الرعية هويتها: ورسالتها
  • العلمانيون في الكنيسة


  • الشركة في الكنيسة وأدواتها

    تنوع

    التنوع غِنى ولكن...

    تتألف كنائسنا – شأنها شأن جميع الكنائس – من فئات كنسية متنوعة (أساقفة، كهنة، رهبان وراهبات، علمانيين). بالإضافة الى هذا التنوع المرتبط بسر الكنيسة، فإن كنيسة القدس تمتاز بأشكال أخرى متعددة من التنوع، ناجمة عن موقعها الديني والجغرافي والثقافي والروحي والكنسي (كنائس وطقوس متنوعة، مؤسسات دينية واجتماعية وثقافية كثيرة، العدد الكبير من الرهبانيات المحلية والأجنبية، حركات رسولية متعددة الأهداف والروحية والتنظيم، مسيحيون محليّون وأجانب، حجاج…). وهذا ما يحتاج الى تأمل مليّ كي يكون هذا التنوع مصدر غنى متبادل، وذلك استمرارا لروح الشركة والمشاركة التي سعت المسيرة السينودية الى ترسيخ أسسها وترجمتها الى واقع ملموس… كيف يمكن ان يتآلف التنوع الواسع، الذي تمتاز به كنائسنا، في شركة كنسية حقيقية وملموسة؟

    التنوع غِنى ولكن...
    ان التنوع غنى متبادل إن عشناه بروح الانفتاح والتقبل والارتقاء الى روح الإنجيل والحس الكنسي الأصيل. وإن أردنا تعميق روح الشركة وترجمتها الى مشاركة فعلية، فلا بدّ من وعي السلبيات التي علقت بالعلاقات المتبادلة في كل كنيسة على حدة أو بالعلاقات بين الكنائس والفئات المختلفة. فقد سادت، في بعض الأحيان، بين الفئات المختلفة في الكنيسة روح التنافس بين المسؤولين أو بين المؤسسات أو بين الحركات، بعيدا عن روح الإنجيل. لقد كانت كنائسنا ومؤسساتنا وحركاتنا في بعض الأحيان منغلقة على ذاتها ومهتمة فقط بشؤونها ومشاريعها وأهدافها ومصالحها، بعيدا عن التفاعل الحقيقي والخلاق فيما بينها. وهذا هو الانغلاق الذي قد يسود العلاقات بين الفئات التي تتألف منها الكنيسة (الأساقفة، الكهنة، المكرّسون، العلمانيون). هل وكيف يمكن أن نتخطى هذه العقبات كي نصل الى شركة حقيقية نابعة من أصالة سر الكنيسة كما أرادها السيد المسيح؟

    هيئات شركة ولكن...
    بعد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، قامت هيئات شركة متعددة في أبرشياتنا (هيئات أسقفية، مجالس كهنة، مجالس رعوية في بعض الأماكن…)، غير أن هذه الهيئات لم تأخذ دورها الحقيقي والفعال لأنها لم تستند الى رؤية واضحة للمعاني اللاهوتية والكنسية والروحية والرعوية لمفهوم الشركة، فاصطدمت حتما بعقليات بشرية مترسخة تتنافى مع روح الشركة الكنسية (كالعقلية الانفرادية، والقبلية، والعشائرية، ونزعة الانعزال، والوجاهة، والزعامة، والحسابات البشرية، وانعدام التواصل والاتصال بين مختلف هذه الهيئات). … ما هي الشروط التي يجب ان نوفرها كي تقوم هذه الهيئات برسالتها في الكنيسة؟

    سر الشركة الثالوثية
    إن الكنيسة سر الشركة، أي "شركة كل مؤمن شركة لاهوتية وثالوثية مع الله الآب والابن والروح القدس، والتي تفيض فتحقق شركة المؤمنين في ما بينهم، فتجمعهم في شعب واحد"(71) . وتتأصل هذه الشركة في سر الثالوث الأقدس. "فالكنيسة الجامعة شعب واحد يستمد وحدته من وحدة الآب والابن والروح القدس"(72) ، وهذا ما ينطبق على كل كنيسة محلية أو خاصة. إن الكنيسة هي حقا أيقونة ثالوثية. وما الجماعة المسيحية الأولى، التي يصفها سفر أعمال الرسل (راجع، على سبيل المثال، أعمال الرسل 2: 42-47؛ 4: 32-35؛ 5: 12)، إلا تجسيد لهذه الشركة، وهو النموذج الذي يظل مرجعا ثابتا لكل رؤية كنسية في هذا المجال(73) .

    في يسوع المسيح
    ان يسوع المسيح، الذي اتحدت فيه الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانية، هو طريقنا الى هذه الشركة الثالوثية. فقد وحَّدنا بذاته كما تتحد "الأغصان والكرمة" (يوحنا 15: 5)، وكما هو متحد بالآب: "ليكونوا واحدا كما نحن واحد" (يوحنا 17: 22). وهو الذي يغذينا بكلمته وجسده ودمه بحيث نصبح واحدا وإياه والآب (راجع يوحنا فصل 6: 56-57). ومع أننا كثيرون، فإننا نحن الذين نتغذى من الخبز الواحد ومن الكأس الواحدة نشكل جسدا واحدا (راجع 1قورنتس 10: 16). ان الشركة الكنسية تتأصل في الثالوث الأقدس، وتعطى لنا في يسوع المسيح، ونعيشها بقوة الروح القدس، وتتجسد في الاحتفال الإفخارستي لتتحول الى نموذج حياة وعمل في علاقاتنا الكنسية على كل المستويات.

    بقوة الروح القدس
    أرسل السيد المسيح الروح القدس ليحقق هذه الوحدة وليجمع جميع أبناء الكنيسة. فهو يجمع، كما في يوم العنصرة، في تناغم إلهي، رجالا ونساء من كل أمة وشعب ولغة وثقافة، ليؤلفوا شعب الله الواحد دون إلغاء التنوع المشروع، تماما كما ان الأقانيم الثلاثة، التي تشكل الثالوث الأقدس، متحدة ومتميزة في ما بينها (74) في آن واحد. "ان المواهب على أنواع وأما الروح فهو هو، وإن الخدمات على أنواع وأما الرب فهو هو، وإن الأعمال على أنواع وأما الله الذي يعمل كل شيء في جميع الناس فهو هو. كل واحد يتلقى ما يظهر الروح لأجل الخير العام" (1قورنتس 12: 4-7).

    شعب واحد مواهب متعددة
    إن الكنيسة شركة رتبية، على مثال الثالوث. ففي الكنيسة تمايز وتكامل بين الفئات: العلمانيون والإكليروس والمكرسون. ولكلٍّ فئة من هذه الفئات هويتها الخاصة وواجباتها المتكاملة مع واجبات الآخرين(75) . "إن المؤمنين جميعا، بقوة تجدّدهم في معمودية المسيح، يتمتعون بكرامة متساوية. كلهم مدعوون الى القداسة ، وكلهم يساهمون في بناء جسد المسيح الواحد، وكلّ حسب دعوته والمواهب التي نالها من الروح (راجع روم 3-8). هذه الكرامة المشتركة بين جميع أعضاء الكنيسة هي من عمل الروح وترتكز على المعمودية وعلى التثبيت، وتجد لها دعامة في الافخارستيا. ولكن التعددية هي أيضا من عمل الروح الذي يجعل من الكنيسة أسرة عضوية في تنوع الدعوات والمواهب والخدم"(76) .

    البابا وجمع الأساقفة
    في الكنيسة الجامعة، يشكل الأساقفة، متحدين مع قداسة البابا وبرئاسته، السلطة العليا الآتية من المسيح من خلال سر الكهنوت الذي يتمتع الأساقفة بملئه. وهذه الشركة تجد التعبير عنها في الجمعيات الأسقفية (في الكنيسة اللاتينية) أو في السينودسات المقدسة البطريركية (في الكنائس الشرقية)، مع ما في هذه الهيئات من فروقات وخصوصيات في الشرق والغرب.

    الأسقف
    أما في الكنيسة المحلية، فالأسقف المحلي هو العلامة المرئية للوحدة ومركزها وخادمها، وهو الذي يتمتع بالمسؤولية المباشرة لقيادة شعب الله (الرسالة الراعوية والإدارية)، وتعليمه بالوعظ بكلمة الله (الرسالة التعليمية)، وتقديسه بالأسرار (الرسالة التقديسية)(77) . ويختار الاسقف معاونين له، كهنة وشمامسة، ويكرسهم بالسيامة الكهنوتية، ليشتركوا معه في هذه الرسالة المثلثة.

    الكاهن
    والكهنة هم معاونو الاسقف في مختلف أنحاء الأبرشية، وهم حلقة الوصل بينه وبين الشعب المؤمن. للرسالة الكهنوتية "بعد جماعي"(78) وهو في صلب دعوتهم، سواء في علاقة الكاهن بالأسقف أو بإخوته الكهنة أو بالمؤمنين. وهذا ما يدعو الكاهن الى أن يكون خادم الوحدة والمشاركة، من خلال الصلاة، وممارسة الأسرار، وموهبة التمييز داعيا كل واحد الى أن يخدم جسد المسيح بمواهبه وعطاياه، والتعامل مع أفراد شعب الله، وبالخصوص الفقراء والضعفاء في الرعية. إن الكاهن صورة عن المسيح "الراعي الصالح"(79) . وإلى الكهنة ينضم الشمامسة الدائمون الذين أقرّت الكنيسة الجامعة إقامتهم.

    العلماني
    يصبح جميع المؤمنين – بأسرار الدخول في الحياة المسيحية (العماد والتثبيت والإفخارستيا) – مشاركين في رسالة المسيح المثلثة (التعليمية، والتقديسية، والرعوية). فالعلمانيون يشتركون في الرسالة التعليمية إذ ينشرون كلمة الله بمختلف الطرق والوسائل بالتعاون مع رؤسائهم الروحيين. كما يشتركون في الرسالة التقديسية إذ يتقدسون من خلال أسرار الكنيسة ويقدسون العالم الذي أحبة الله حتى انه جاد بابنه الوحيد ليخلصه (راجع يوحنا 3: 16). ويشتركون في الرسالة الرعوية بمشاركتهم في حياة الكنيسة وشؤونها مساهمين في بنائها في التعاون الوثيق مع الأساقفة والكهنة. وبذلك يمارسون كهنوتهم العام.

    الحياة المكرسة
    ليست الحياة المكرسة إضافة خارجية على الحياة المسيحية، بل هي جزء أساسي منها(80) . يشكّل المكرسون (الرهبان والراهبات والمكرسون العلمانيون) جزءا لا ينفصل عن الأبرشية يتحملون مسؤولياتهم فيها على حسب طاقاتهم وبحسب مواهبهم في مجال التبشير والتربية الدينية والخدمة الرعوية وسائر المجالات الرعوية، وذلك بالتنسيق المستمر مع الأبرشية. "فاهتمام الأساقفة بالأشخاص المكرسين واستعداد هؤلاء للعمل دون تحفظ مع الأساقفة يمثل شكلين متكاملين للمحبة الكنسية الواحدة التي تطلب مساهمة الجميع في خدمة الشركة الرتبية والمواهبية لشعب الله بأسره"(81) .

    من الشركة إلى المشاركة
    "الشركة هي هبة الله لكنيسته. وإذا قبلنا هذه الهبة فإنها تؤدي الى المشاركة الفعلية والملموسة. وإلا فإنها تبقى مفهوما مجردا وأمنية جميلة. تأتي المشاركة في حياة الكنيسة كتعبير عن هذه الشركة من جهة، وكوسيلة لتنميتها من جهة أخرى… ولهذه المشاركة أشكال متعددة بحسب دعوة كل واحد في الكنيسة، وبحسب المواهب التي حباه بها الرب. فليس المطلوب أن تكون اليد رجلا، والعين أذنا. ولا تستطيع الرجل أن تقول: لست يدا، فما أنا من الجسد، والأذن: لست عينا فما أنا من الجسد. وكذلك "لا تستطيع العين أن تقول لليد: لا حاجة بي إليك، ولا الرأس للرجلين: لا حاجة بي إليكما، لأنها لو كانت كلها عضوا واحدا فأين الجسد؟ ولكن الأعضاء كثيرة والجسد واحد. وأخيرا لا يستطيع أحد أن يحسب نفسه صغيرا أو ضعيفا أو زائدا، فكل عضو له كرامته ودوره ومساهمته في بناء الجسد" (راجع 1قورنتس 12: 12-19). بهذه الروح تتم المشاركة في الوحدة في حياة الكنيسة، ويصبح البنيان متينا وجميلا بمشاركة الجميع في بنائه"(82) .

    التواصل
    ان مفهوم الشركة الكنسية والروحيّة التي تستند إليها المشاركة أو تؤدي إليها تستدعي أيضا التواصل بين هذه الفئات المختلفة. لا تستطيع هذه الفئات المتعددة، التي يتألف منها شعب الله الواحد، ولا يحق لها، أن تظل بمعزل بعضها عن بعض، بل من الضروري أن تسعى كل فئة أو هيئة سعيا جادا الى الاتصال بالفئات الأخرى بغية كسر الحواجز القائمة بينها وصولا الى شركة كنسية يغتني فيها الكل من الكل. وهذا ما يدعو كنائسنا الى اتخاذ الوسائل العملية، سواء على مستوى الاتصال الشخصي أو على مستوى الهيئات والمؤسسات، التي تكفل مثل هذا التواصل، كي تؤلف جميعها معا جسد المسيح الواحد.

    هيئات الشركة والمشاركة
    ان الشركة والمشاركة والتواصل بحاجة الى هيئات تحولها الى واقع معاش وملموس. وبالفعل تنوعت، منذ عقود، هيئات الشركة والمشاركة في كنائسنا على جميع المستويات، كما ان هنالك هيئات أخرى يجب السعي الى إنشائها لحاجتنا إليها:
    - على المستوى الإقليمي المسكوني: مجلس كنائس الشرق الأوسط، الذي أصبحت العائلة الكاثوليكية عضوا فيه، وهذا ما يدعو كنائسنا الى اتخاذ دورها النشط والإيجابي والفعال فيه، خدمةً لجميع المسيحيين في الشرق.
    - على المستوى الإقليمي الكاثوليكي: مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، الذي يشكل أداة شركة ومشاركة بين جميع الكنائس الكاثوليكية في الشرق.
    - على المستوى الإقليمي لكل كنيسة: الجمعيات الأسقفية اللاتينية أو سينودسات الكنائس الشرقية، التي تؤمن كل منها بطريقتها الخاصة التواصل بين الكنائس المتجانسة في طقوسها ونظامها الكنسي.
    - على المستوى الكاثوليكي المحلي: مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، الذي أصبح أداة شركة وتواصل وتعاون وتنسيق وتشاور على جميع المستويات بين الكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة. لا بد من تطوير هذا المجلس كي يساهم في نمو الشركة والتعاون بين كنائسنا.
    - على المستوى المحلي لكل أبرشية:
    - مجالس الكهنة: وهي الهيئة التي تعبر عن الشركة بين الكهنة وتعززها. تحتاج هذه الهيئة إلى تطوير انطلاقا من خبرة الماضي كي تتجاوب مع حاجة الكهنة الى الشركة والعمل الجماعي المشترك، وكي تكون مكان تواصل وشركة بين الكهنة والأساقفة، وبين الكهنة أنفسهم بروح إنجيلية وكهنوتية أصيلة.
    - المجلس الرعوي الابرشي: وهي الهيئة التي تجمع جميع فئات شعب الله حول الأسقف. ان هذه الهيئة كفيلة بأن تدفع روح الشركة الى الأمام على المستوى الابرشي، إذ تشترك فيه جميع فئات المؤمنين (أساقفة، وكهنة، ورهبان وراهبات، وعلمانيون) بروح الوحدة والتعاون والبنيان المشترك.
    - المجلس الرعوي لكل رعية: وهي الهيئة التي تجمع، حول كاهن الرعية، جميع فئات الرعية. لا بدّ من العمل على تثبيت هذه الهيئة وانتشارها، بإبراز دورها، وروحيتها، وطريقة عملها، وأسسها، وقوانينها، بحيث تؤمّن الشركة الكنسية في كل رعية، وذلك انطلاقا من خبرة الماضي والواقع الاجتماعي والكنسي الذي نعيشه في رعايانا.
    - اتحاد الراهبات، الذي تأسس منذ عقود، والذي ساهم في تقريب الجمعيات الرهبانية بعضها من بعض، والذي يمكن أن يكون هيئة فعالة لمشاركة الرهبنات والمؤسسات الرهبانية وأعضائها في حياة الكنيسة فتساهم، انطلاقا من أصالتها، في بناء الجماعة المؤمنة. وحبذا لو أنشئت هيئة ما للرهبان وتؤمن التواصل في ما بينهم، وبينهم وبين الأبرشيات لخير الجميع في الأرض المقدسة.
    - هيئات أخرى: ان التنوع الواسع لكنائسنا قد يدعو الى إنشاء هيئات أخرى مناسبة تعزز التواصل في الكنيسة، مع التركيز على ان جميع هذه الهيئات والاتحادات المختلفة (اتحاد الحركات المختلفة، الكشافة، الشبيبات…) من أي نوع كانت، يجب ان تظل في تواصل مع الهيئات الأخرى بعيدا عن روح الانعزال والتقوقع، وفي تواصل مع الشعب المؤمن والرئاسة الكنسية، كي تساهم كلها، من منطلق اختصاص كل منها، في تنمية روح الشركة والمشاركة في الكنيسة. وهذا ما يدعو الى اتخاذ الوسائل العملية لتأمين هذا التواصل في ما بينها.

    روحية الشركة والمشاركة
    "ومما لا شك فيه أن جميع هذه الهيئات تصاب بالضعف إذا لم تستند الى مواقف روحية تتناسب والهدف الذي وضعت من أجله. فإذا تحكمت أعمال الجسد ، مثل "العداوات والخصام والحسد والسخط والمنازعات والشقاق والتشيع" (غلاطية 5: 20) بهذه الهيئات فإنها تنحرف عن غايتها المنشودة. أما إذا أحيتها أعمال الروح، مثل "المحبة والفرح والسلام والصبر واللطف وكرم الأخلاق والإيمان والوداعة" (غلاطية 5: 22)، فإنها تخصب وتأتي بالثمر الكثير. إن المصالح الخاصة للأفراد والفئات وروح التحـزب والكبرياء والعداوات الشخصية وغيرها تفسد أي توجه نحو العمل المشترك، بينما تضمنه وتنميه روح العمل الجماعي والخير العام والبنيان المشترك ونكران الذات والإصغاء والحوار والتواضع والوداعة والمحبة. وهذه كلها تشكل قاعدة روحية تجعل حياة الشركة ممكنة"(83) . ما تكلمنا عنه هي هيئات مشاركة لا مراكز سلطة تخالف روح الإنجيل. إن الهدف هو الخدمة لا التسلط. ليس الهدف الضياع في الأمور الإدارية بقدر ما هو تنمية روح الأخوّة. دون هذه الأدوات لا يمكن للشركة أن تتنفس، كما لا يمكن أن تتنفس هذه الهيئات من غير روحيّة الشركة الكنسية الحقيقية. وهذا كله يدعو كنائسنا الى غرس هذه الأسس التي تقوم عليها هذه الهيئات والتي بدونها لا يمكن ان تقوم بدورها وأن تأتي بثمارها.

    بعث رسالة العلماني
    "بودنا أن نلفت الانتباه الى الأهمية المتنامية لدور العلمانيين في الكنيسة… (ولقد) شهدت العقود الماضية (في كنائسنا) نهضة حقيقية في هذا المجال. وهي نهضة بحاجة الى مواصلة الجهود لتوضيح أشكالها ومضامينها في جميع مجالات حياتنا الكنسية وإعداد خطّة عمل مفصلة لوضعها موضع التطبيق. وهنا لا بد من القول ان مشاركة العلمانيين في حياة الكنيسة تدعو الاكليروس والعلمانيين على حد سواء الى ارتداد في العقليات، إذا أردنا أن يأخذ هذا الجانب من سر الكنيسة مساره الصحيح ويصبح أسلوب حياة دائم وفاعل في كنائسنا. اعتاد الاكليروس على الانفراد في العمل الرعوي وإدارة شؤون الكنيسة في الأبرشيات والرعايا وفق نموذج كنسي هرمي يعتبر العلماني خاضعا أكثر منه مشاركا. وهذه هي العقلية التي تحتاج الى تغيير على مستوى الفكر اللاهوتي والممارسة الرعوية والتوجه الروحي بحيث ينظر الى العلماني كعضو كامل العضوية في الكنيسة. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، فالعلمانيون، هم أيضا، بحاجة الى ارتداد مماثل. قد يقترب العلمانيون من الكنيسة من زاوية طائفية أو عشائرية أو من زاوية حسابات مادية وبشرية غريبة عن سر الكنيسة. وهذا كله يضع العراقيل أمام مشاركتهم في حياة الكنيسة مشاركة حيّة وفاعلة وحقيقية. وهذه الإرتدادات هي التي تجعل الاكليروس والعلمانيين ينظر بعضهم الى بعض، لا من منطلق "نحن" و "أنتم"، وكأن الفئتين متقابلتان ومتخاصمتان، بل من منطلق "نحن معا"، أي أعضاء في جسد المسيح الواحد،كل بحسب دعوته ورسالته في الكنيسة"(84) .

    خاتمة


    إن الكنيسة - الشركة هي الخبرة الكبرى التي عاشتها كنائسنا الكاثوليكية غبر مسيرة السينودس الأبرشي. وهذه هي الخبرة التي يستلهمها هذا المخطط الرعوي بشكل أساسي. إن كنائسنا الكاثوليكية مدعوة، بنعمة الله، الى ترجمة هذه الخبرة في مجمل حياتها ونشاطها وعملها الرعوي.



    قرارات


    1 - إنشاء مجلس أبرشي أعلى على مستوى جميع الكنائس الكاثوليكية يمثّل مختلف المناطق.
    2 - إنشاء مجلس رسولي للعلمانيين على مستوى الكنائس الكاثوليكية يمثّل مختلف الأبرشيات.
    3 - إحياء وتفعيل مجلس الكهنة المشترك لكل الكنائس الكاثوليكية.
    4 - إنشاء مجالس رعوية في كل رعية.
    5 - إقرار الخِدَم الكنسيّة الصغرى ودرجة الشّماسية الإنجيلية الدائمة (حيث لم تُقَر بعد).


    ------------------------

    71  الرسالة الراعوية لبطاركة الشرق الكاثوليك، سر الكنيسة، رقم 18
         (التي تستشهد بخطاب يوحنا بولس الثاني الى الكرادلة والكوريا
         الرومانية في 20/12/1990). راجع أيضا الرسالة عينها بشأن الأصل
         الثالوثي لسر الشركة في الكنيسة، رقم 19-22 بنوع خصوصي.
    72  دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 4.
    73  راجع سر الكنيسة، رقم 37.
    74  راجع العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم 19.
    75  راجع المرجع نفسه، رقم 19.
    76  الحياة المكرسة، رقم 31.
    77  راجع دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 24-29.
    78  أعطيكم رعاة، رقم 17.
    79  راجع المرجع نفسه، رقم 18، 21، 23.
    80  الحياة المكرسة، رقم 29.
    81  المرجع نفسه، رقم 49.
    82  سر الكنيسة، رقم 56.
    83  سر الكنيسة، رقم 58. راجع أيضا الوثيقة الأساسية: معا نحو السينودس الابرشي للكنائس
          الكاثوليكية في الأرض المقدسة، ص 30-32.
    84  سر الكنيسة، رقم 59













    مكانة الرهبان والراهبات في الحياة الرعوية في أبرشياتنا

    حضور هام ومميز

    تمتاز أبرشياتنا في الأرض المقدسة بوفرة الجمعيات الرهبانية، الرجالية والنسائية، الموجودة فيها، منها ما جاء منذ قرون كحراسة الأراضي المقدسة والآباء الكرمليين، ومنها ما تزامن مجيئها مع تأسيس الأبرشيات الكاثوليكية المختلفة، بدعوة من أساقفة كنيسة الأرض المقدسة أو بمبادرة من هذه الجمعيات نفسها، منها ما نبت في الخارج ومنها ما تمّ تأسيسه في الأرض المقدسة بالذات (رهبنة الوردية). ولا تزال الأرض المقدسة الى اليوم تجذب إليها مختلف الجمعيات الرهبانية، القديمة والجديدة.
    ولقد نشطت هذه الجمعيات في مختلف مجالات العمل: الاجتماعية (مياتم، ملاجئ للمسنين، مؤسسات للمعاقين، مراكز للحالات الاجتماعية الخاصة)، والصحية (مستشفيات، عيادات)، والتربوية (المدارس على اختلاف أنواعها، الجامعات، التأهيل المهني)، والثقافية (المكتبات، النشر والطباعة)، والعلمية (معاهد الكتاب المقدس، معاهد العلوم الدينية، مراكز البحوث العلمية الدينية وغيرها، الآثار)، والخيرية (مساعدة الفقراء والمحتاجين)، ومجال الحج (استقبال الحجاج وإرشادهم، حراسة وترميم الأماكن المقدسة)، والرعوية (التربية الدينية، العمل في الرعايا)، والروحية (حياة الصلاة والتأمل)، وفي مجال العمل المسكوني والحوار بين الأديان، وفي حقل تنشئة الإكليروس المحلي. وتظهر بذور جديدة لحيوية الحياة المكرسة اليوم في كنيستنا في المكرسات في العالم اللواتي تتبلور رسالتهن شيئا فشيئا في كنيستنا المحلية، وكذلك في الحركات الكنسية، التي تجمع بين أعضائها مكرسين من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين.

    تقييم من أجل المستقبل
    ان وجود الجمعيات الرهبانية على اختلاف أنواعها ومواهبها يشكل خبرة طويلة ومتنوعة وغنية في أبرشياتنا. فقد قامت بعمل جبار في الكنيسة مساهِمة في بنائها ونموها، وفي المجتمع مساهِمة في تقدمه من مختلف النواحي. ومن الطبيعي أيضا أن خبرة من هذا النوع لا تخلو من شوائب يجب الوقوف عليها بروح منفتحة إيجابية لتلافيها في المستقبل فتظل الجمعيات الرهبانية عنصرا إيجابيا وفاعلا ومتفاعلا في حياة أبرشياتنا الكاثوليكية. ومن الشوائب في بعض الأحيان الانغلاق على نفسها والاهتمام فقط بمؤسساتها، الانقطاع عن الحياة الرعوية وعن الواقع الاجتماعي والثقافي لبلادنا بسبب عائق اللغة أو الثقافة أو نوعية الرسالة ، الانفرادية والعمل بروح التنافس. إن العمل على تلافي هذه المخاطر أو الشوائب كفيل بأن يجعل الجمعيات الرهبانية حيّة في الكنيسة، تتفاعل معها، تعطيها وتأخذ منها. أما أبرشياتنا، بدورها، فلم تقم دائما بالجهد المطلوب والكافي لإدراج هذه الجمعيات في حياة الكنيسة المحلية. ولا بد من القول ان اتحاد الراهبات في الأرض المقدسة الذي عمل الكثير في سبيل انفتاح أكبر للجمعيات الرهبانية النسائية بعضها على بعض وعلى الكنيسة المحلية، وهو الجهد الذي يجب الاستمرار فيه خدمةً للجمعيات الرهبانية نفسها، والكنيسة المحلية، والمجتمع الذي نعيش فيه.

    العمل الرعوي والتكريس الرهباني
    ليست الحياة الرعوية على هامش الحياة الرهبانية، كما ان الحياة الرهبانية ليست على هامش الحياة الرعوية. فالتكريس الرهباني هو تكريس لله في الكنيسة من أجل الجماعة المؤمنة والناس أجمعين. وكذلك، فان الحياة الرعوية هي العمل من أجل الملكوت الذي تقوم به الكنيسة بمختلف مواهبها وعطاياها، والحياة المكرسة واحدة من هذه العطايا. إن التكريس الرهباني هو تكريس لـ "خدمة الله وكنيسته المقدسة"(85) . "وإذ كانت الكنيسة قد تقبّلتْ تقدمة المكرسين لذواتهم كان عليهم أن يدركوا انهم مقيَّدون بخدمتها أيضا"(86) . فالتكريس الرهباني والالتزام الرعوي أمران يسيران معا: "يرجع العمل الرسولي والخيري الى طبيعة الحياة الرهبانية نفسها… ومن ثمّ يجب أن تُشبَع حياة أعضائها الرهبانية كلها بالروح الرسولية، وأن يضطرم العمل الرسولي بالروح الرهبانية"(87) . "لمّا كانت المشورات الإنجيلية تصل الذين يتبعونها صلة خاصة بالكنيسة وسرّها… وجب أن تكون حياتهم الروحية مكرسة هي أيضا لخير الكنيسة كلها جمعاء. لذلك يجب على كل واحد، بحسب طاقته ونمط دعوته الخاص، أن يعمل بالصلاة أو بالنشاط الفعّال، على تأصيل ملك المسيح في النفوس، وتوطيده فيها، ونشر لوائه في جميع أنحاء الكون. من أجل ذلك تحمي الكنيسة الطابع الخاص بكلِ من مختلف المؤسسات الرهبانية وتدعمه"(88) .

    وجهان أساسيان
    لهذا العمل الرعوي وجهان أساسيان:
    - شهادة الحياة: ان الوجه الأول لعمل المكرسين الرعوي هو شهادة الحياة. فالمساهمة الأولى المنتظَرة من الرهبان والراهبات هي أن يكونوا بحياتهم "علامة" للتكريس المطلق لله ولمحبته اللامتناهية للبشر وشهادة لقيم الملكوت الإنسانية والاجتماعية والروحية(89) . فرسالة الراهب هي أن "يكون" قبل ان يعمل، ذلك أنه أولاً وقبل كل شيء إنسان مكرس كليا لله تعالى.
    - العمل الرسولي: وهذه الشهادة لا يمكن أن تنفصل في المؤسسات الرسولية عن العمل الرسولي لخير الجماعة المؤمنة وجميع الناس. ولا حصر لمشاركة الرهبان والراهبات في الحياة الرعوية: "يجب أن تشترك جميع المؤسسات في حياة الكنيسة، وأن تتبنّى وتشجع بقوة مبادراتها ومقاصدها في حقول الكتاب المقدس، والليتورجيا، والعقيدة، والرعاية، والحركة المسكونية، والرسالة، والاجتماع. وذلك كله وفاقا لطابعها الخاص ومنحاها في العمل"(90) . وعليه، فإن جميع مجالات الحياة الرعوية مفتوحة للرهبان والراهبات بالتنسيق مع الرؤساء الروحيين. وفي هذه المجالات ليس الرهبان والراهبات مساعدين من الدرجة الثانية، بل إنهم مشاركون حقيقيون من منطلق دعوتهم ورسالتهم في الكنيسة وموهبتهم الخاصة بهم، شريطة أن يكونوا مُعَدِّين لذلك إعدادا مناسبا. وهذا ما يدعو الجمعيات الرهبانية الى "أن توفق توفيقا صحيحا ما بين قوانينها وعاداتها ومقتضيات العمل الرسولي الموكول إليها"(91) .
    ومن هذا المنطلق ، فإن كل جمعية رهبانية مدعوة إلى أن تقدم مساهمتها في حياة الأبرشية انطلاقا من اختصاصها ومجال عملها وموهبتها. فمعاهد الكتاب المقدس يمكن أن تساهم في نشر الكتاب المقدس وتفسيره، والمؤسسات العاملة في مجال المعاقين يمكن أن تساهم في توعية الجماعة المؤمنة حول هذا الموضوع… وهكذا…

    متطلبات المشاركة الرعوية

    ان الجمعيات الرهبانية – شأنها شأن جميع فئات شعب الله - مدعوة، قبل كل شيء، الى تطوير وتعميق:
    - حس كنسي حقيقي يساعدها على تجاوز حدود مؤسساتها الخاصة لتلتقي بحياة الأبرشية ككل وتشارك فعليا بحياتها ونشاطاتها الرسولية.
    - روحانية رسولية تعتبر الشهادة من أجل الملكوت والعمل له على رأس الأولويات. فالحياة الرهبانية هي حياة في الكنيسة ومن أجل الكنيسة. وكلما انعزلت الجمعيات الرهبانية عن الجسم الكنسي فإنها تنقطع عن ينابيعها وجذورها وتحرم الكنيسة من أصالة عطائها وخدمتها(92) .
    - التعاون الصادق والأخوي والمشبع بالروح الإنجيلي والكنسي بين هذه الجمعيات المختلفة، سواء على مستوى الرعية أو المنطقة أو الأبرشية ككل، بالتنسيق مع الرعاة المحليين في المجالات المختلفة (أيام دعوات مشتركة، رياضات روحيّة مشتركة، الشباب، التنشئة…). ولقد كانت مسيرة السينودس مناسبة لتطوير مثل هذا التعاون الذي يجب ان يتحوّل الى نهج حياة دائم وثابت. ان التعاون بين الأبرشيات والجمعيات الرهبانية من جهة، وتعاون الجمعيات الرهبانية في ما بينها من جهة أخرى عن طريق اتحاد الراهبات وهيئة مناسبة للرهبان، يمكن أن يفتح الباب لإمكانات كبيرة وواسعة من العمل لخير الجمعيات الرهبانية ولخير الكنيسة.
    - وللوصول الى هذه الغاية، من الضروري إنشاء قنوات اتصال دائمة توفر التواصل بين هذه الأطراف لبحث الأمور المشتركة في ما بينهم واتخاذ المبادرات المناسبة. وهذا كله يقتضي من الجمعيات الرهبانية ان تظل منفتحة على البيئة المحلية بما فيها من ثقافة ولغة وعقلية، مما يتيح اندماجاً أكبر وأفضل في حياة الكنيسة والمجتمع.
    - الانفتاح المتبادل، من الأبرشيات على الجمعيات الرهبانية المتواجدة فيها، ومن الجمعيات الرهبانية على الأبرشيات التي تعيش في كنفها. فأبرشياتنا يجب ان تنفتح على الجمعيات الرهبانية فتفهم وتتفهم طبيعتها وموهبتها وخصوصياتها ومتطلباتها، وتثمنها وتقدرها حق قدرها، وتتعاون معها قدر الإمكان لتأمين حاجاتها الروحية، وتهتم بنموها من جميع النواحي. والجمعيات الرهبانية، بدورها، يجب أن تتعرّف وتنفتح أيضا على حياة الأبرشية والرعية، بمختلف طقوسها، فتتبني اهتماماتها وتطلعاتها، وتشارك في حياتها الرعوية، وتلبي بسخاء ومحبة، قدر إمكاناتها، دعوة الأبرشيات الى المساهمة في هذا المجال أو ذاك من الحياة الرعوية.
    - ان الكنيسة-الشركة تقتضي تطوير روح التعاون بين جميع الفئات الكنسية العاملة في أبرشياتنا ورعايانا (أساقفة، كهنة، رهبان وراهبات، علمانيين) بروح السعي الصادق الى البنيان المشترك. ان التعاون بين الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين مطلب رسولي أساسي حيث أن الجميع، على تنوع دعوتهم في الكنيسة، يعملون معا لبناء جسد المسيح الواحد، بروح الاحترام المتبادل. ومما لا شك فيه أن الصلاة معا، من وقت لآخر، يؤسس هذا التعاون ويعزّزه.
    - ويتطلب هذا تنمية روح الحوار الجاد والبنّاء المبني على القيم الإنجيلية والكنسية.

    حاجات تقليدية وجديدة
    مما لا شك فيه ان حياة المجتمع والكنيسة تطورت في بلادنا تطورا كبيرا وتخضع لمتغيرات كثيرة. وهذا أمر ينعكس على حياتنا الرعوية فتظهر حاجات جديدة من الضروري تلمسها للاستجابة الى متطلباتها.
    هنالك مجالات تقليدية وظفت فيها الجمعيات الرهبانية الكثير الكثير من الجهود والتضحيات (المدارس، العمل الاجتماعي، التربية الدينية، المجال الصحي، خدمة الحجاج…). ان الكنيسة لا تزال بحاجة ماسة الى هذا المجهود، مع ضرورة مواكبة التطورات في هذه المجالات كي تستطيع الجمعيات الرهبانية ان تميزها وتتفهمها وتلبيها وتستجيب لها.
    بالإضافة الى هذه المجالات التقليدية، هنالك حاجات جديدة في الحياة الاجتماعية والكنسية تستدعي طرق أبواب جديدة من العمل الرهباني في المجتمع والكنيسة. وفي هذا المجال يجب القول ان الحياة الرعوية تطورت وتشعبت وتنوعت. وهذا ما يستدعي حضور الرهبان والراهبات في المجالات الرعوية الجديدة (كالحركات الرسولية، والمجالس الرعوية، والعمل في الرعية في جميع أوجهه، والمجال الروحي كتنمية روح الصلاة، والتنشئة المسيحية للبالغين، ورسالة العلمانيين…). وقد يتطلب ذلك التوزيع العادل للرهبانيات في مختلف مناطق الأبرشية.

    الحياة المكرسة التأملية
    لقد سبق ونوّهت "الوثيقة الأساسية" بدور الرهبنات التأملية في أبرشياتنا(93) . فقد أنعم الله على كنائسنا بعدد من أديرة الحياة المكرسة التأملية. ان الكنيسة المحلية تثمن هذا الحضور، حضور الشهادة والصلاة والانقطاع الكلي والجذري لله. ان هذا الحضور حيوي وضروري في أبرشياتنا، لأنه يؤمِّن شهادة حياة وحضور صلاة تحتاج إليهما الكنيسة باستمرار. بالإضافة الى ذلك، تشكِّل هذه الأديرة مركز إشعاع روحي للجماعة المسيحية إذ يمكن أن يلجأ إليها المؤمنون، بتشجيع من الرعاة، لخلوات روحية لا بد منها لتنمية حياتهم المسيحية. وهذا ما يدعو هذه الأديرة إلى اتخاذ المبادرات البسيطة لتسهيل هذه الخلوات الروحية للمؤمنين، لا من حيث توفير المكان المناسب فحسب، بل أيضا من حيث تقديم الأدوات الروحية الضرورية لمثل هذه الخلوات الروحية ( المرافقة الروحية، كتب روحية، نماذج مطبوعة ومتنوعة للخلوة وما شابه). وهذا كله يستدعي الانفتاح المتبادل بين أبرشياتنا ورعايانا وهذه الأديرة، كي تطلع هذه الأديرة على ما يجري في الأبرشية من جهة، وكي يعمل الرعاة على التعريف بهذه الرهبنات ودورها الروحي في الكنيسة المحلية. ومن المناسب أن يطلع المؤمنون على الحياة الرهبانية التأملية وأصالتها في الكنيسة على أنها دعوة مميزة وخصبة وخلية حيّة في الكنيسة المحلية.

     

    الخاتمة

    ان الحياة الرهبانية هي حقا هبة الله لكنيسته . والوجود الرهباني الكثيف في بلادنا نعمة خاصة لكنائسنا ومجتمعاتنا، إذ تنطوي على إمكانات رعوية كبيرة على جميع المستويات. وبينما تدخل كنائسنا الألف الثالث من تاريخها في الأرض المقدسة، فان الجمعيات الرهبانية يمكن ان تلعب دورا هاما لا بل أساسيا في هذه الفترة الجديدة من تاريخ كنائسنا وحياتها. يقول البطريرك ميشيل صبّاح في إحدى عظاته للرهبان: "تنتظر الأبرشية الكثير من الرهبان. يجب ان نتعاون من أجل مستقبل الأرض المقدسة، مستقبل إيمان ومحبة ونعمة. يجب ان نحضّر معا مستقبلا إنسانيا وروحيا لهذه الأرض. وعلينا مسئولية تجاه أبناء هذه الأرض وسكانها" .

     

    قرارات

     1 - ضرورة انفتاح الجمعيات الرهبانية وفئات المكرسين الأخرى، وفق مواهبهم الخاصة،
           على الحياة الرعوية في سيبل البنيان المشترك.
    2 - تفعيل اتحاد الراهبات ووضعه تحت مظلة مجلس رؤساء الكنائس الكاثوليكية في الأرض
         المقدسة، وإنشاء هيئة مناسبة للرهبان.
    3 - خلق قنوات تواصل بين الجمعيات الرهبانية وباقي فئات المؤمنين (الكهنة والرعايا)
          والأبرشية بشكل عام من أجل تعارف أكبر وتعاون أوسع ضمن الكنيسة المحلية.
    4 - تقدير وتفعيل دور الأديرة التأملية في حياة أبرشيتنا والتعريف بها.
    5 - السعي إلى توزيع تواجد وعمل الجمعيات الرهبانية في مختلف مناطق الأبرشيات،
          خاصة الريفية منها.
    6 - تطوير عمل مشترك للدعوات الكهنوتية والرهبانية.
     
     
     
    ---------------------------------------
     
     
    85  رتبة الالتزام الرهباني، رقم 54.
    86  قرار في التجديد الملائم للحياة الرهبانية، رقم 5.
    87 المرجع نفسه، رقم 8. كذلك التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 931-933 و945.
    88  دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 44.
    89  راجع دعوة رسولية من أجل إعلان الإنجيل، رقم 69 وكذلك الحياة المكرسة، رقم 72.
    90  قرار في التجديد الملائم للحياة الرهبانية، رقم 2/ج.
    91  المرجع نفسه، رقم 8.
    92  يقول البطريرك ميشيل صباح في رسالته الراعوية الأولى: "والذي أريد أن أقوله للجميع:
          هو أننا نكون معا طاقة ثراء وإمكانات كبيرة، للشهادة وللخدمة في الكنيسة والمجتمع.
          فلكي نؤدي شهادتنا وخدمتنا، على أحسن وجه، علينا أن نعرف بأننا "كنيسة" قبل أن نكون
          "مؤسسة". وأننا جسد واحد، وإيمان واحد، ومجموعة مسؤوليات واحدة. ومن ثم ضرورة
          التنسيق وضرورة الاتجاه الذي يجب أن ينبع من داخل كل جماعة رهبانية، لتتجاوز الآفاق
          الفردية وتلتزم آفاق الكنيسة. كلنا عمال في الحصاد الواحد، عمال لله والإنسان. فيجب ان
          نعرف بعضنا البعض، وان نقبل بعضنا البعض، وان نصلي معا، وان نقف معا أمام أبينا
          الواحد، مطمئنين، أقوياء بمحبة مخلصنا التي تربطنا جميعا اخوة وأخوات" (رقم 49).
    93  راجع الوثيقة الأساسية: معا نحو السينودس الأبرشي للكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة،
           رقم 49.
    94  راجع الحياة المكرسة، رقم 1.
    95  عظة بتاريخ 21. 11. 1989.


    الأسرة المسيحية في مجتمعنا

    الأسرة في مجتمعنا

    يعتبر مجتمعنا الأسرة من دعائمه القوية والثابتة. فهو لا يزال متمسكا بالأسرة ومدركا لأهميتها وقدسيتها وكرامتها، ومثمِّنا للقيم الأسرية وللعلاقات القائمة بين أفرادها. وعليه فإن الأسرة تلعب دورا أساسيا في توجيه الفرد، وتؤثر تأثيرا كبيرا على مسلكه وحياته. وما نجده في المجتمع عموما، نجده أيضا في الجماعة المسيحية. فالانتماء إلى الأسرة راسخ ويمتد على فترات العمر المختلفة. ويعتبر المؤمنون الزواج الديني الطريقة الوحيدة للزواج. وهكذا فالإقبال على هذا السر بديهي بالنسبة لهم. وهذا يساعد على قيام أسر ثابتة وقوية تعيش في حالة الانسجام والترابط والمحبة.

    متغيرات وحاجات
    مع كل هذا، هنالك متغيرات وحاجات وظواهر لا بدّ من الانتباه إليها:
    - يجب ألا يغيب عن ذهننا المتغيرات الكثيرة التي حصلت في المجتمع (العمل خارج البيت، العمل يوم الأحد، الظروف الاقتصادية والاجتماعية دائمة التغير، نمط الحياة العامة، وسائل الإعلام، التيارات المستحدثة بخصوص الأسرة…) والتي تؤثر تأثيرا متزايدا على حياة الأسرة (مشاكل زوجية، بوادر تفكك في العلاقات الأسرية…). وهذا ما تنوّه إليه الوثيقة الأساسية بقولها: "أما الأسرة التي لا يغيب عن ذهن أحد ما لها من أهمية في مجتمعنا، فإنها تعيش حالة من الاضطراب والحيرة. فدورها يتقلص شيئا فشيئا، والقيم التي بنيت عليها يتداعى تأثيرها على الجيل الناشئ، ناهيك عن المشاكل الخلقية المتنامية التي تواجهها"(96) .
    - لا يزال وعي المؤمنين لمعنى الزواج كسرّ ضعيفا، مما يجعل العديد منهم يُقبِلون عليه من دون استعداد كاف، حاصرين اهتمامهم باللوازم المادية والاجتماعية (السكن، لوازم البيت، الدعوات، الحفلات، المصاريف المادية الباهظة)، بينما يحتل الاهتمام الروحي حيزا ضيقا.
    - لا يزال الإعداد الرعوي لسر الزواج وما ينطوي عليه من تخطيط رعوي محدودا، وغالبا ما يقتصر على الناحية الطقسية والإدارية ولا يشمل بما فيه الكفاية النواحي الدينية والإنسانية. أما المتابعة الرعوية بعد الزواج، خاصة للأسر الشابة، فلم يجد بعد طريقه الحقيقي عندنا.
    - نلاحظ أن المدعوين إلى الاحتفال بسر الزواج لا يشاركون فيه فعليا. فهو بالنسبة لهم مجرد مناسبة اجتماعية خالية في كثير من الأحيان من المعنى الديني والروحي.
    - تعاني الأسر الشابة في بلادنا من مشاكل مادية واقتصادية كثيرة (العمل، السكن، التعليم، المصروف البيتي…) مما يؤثر على التزامها الديني والروحي والكنسي.
    - تفتقر الأسرة المسيحية إلى الوعي الضروري بشأن بعض الجوانب الخلقية المتصلة بسر الزواج المقدس (التنظيم الإصطناعي للنسل، الإجهاض، التعقيم، الزرع والإخصاب الاصطناعيين...) مما يجعلها تلجأ إلى مثل هذه الأمور التي تحرمها الكنيسة من غير أي وازع ضمير. كما تفتقر الأسرة إلى وعي كاف بشأن التربية المسيحية للأولاد فلا تعطيها الأولوية المطلوبة تاركة هذه المهمة للكنيسة بشكل عام، وللمدرسة بشكل خاص.

    الزواج سر مقدس
    لا بدّ من أن تقوم الكنيسة بجهد خاص لتفهّم الأوضاع المتغيرة للأسرة في مجتمع اليوم، بما في ذلك المشاكل والتحديات الجديدة التي تواجهها، وللبحث عن طريقة جديدة للتعامل معها، فتقدّم للأسرة المسيحية ما يلزم من مرافقة رعوية. تشكل الأسرة أغلى القيم الإنسانية(97) . فهي ليست وليدة الصدفة ولا مجرد تطور لقوى طبيعية لا واعية، بل مؤسسة وضعتها حكمة الله الخالق لكي يحقق في الناس مقاصد حبه. "الميثاق الزوجي الذي من خلاله يُنشئ رجلٌ وامرأة بينهما شركة حياة وحب حميمة، قد أسسه الخالق ووضع له قوانين خاصة. هذا الميثاق يهدف، من طبيعته، إلى خير الزوجين، والى إنجاب الأولاد وتربيتهم. وقد رفعه الرب، بين المعمّدين، إلى كرامة السر"(98) الذي يقوي الزوجين، ويمنحهما نعم الله الغزيرة، ويبارك حبهما المتبادل ويضمنه. "سر الزواج يرمز إلى اتحاد المسيح والكنيسة ويولي الزوجين أن يحب أحدهما الآخر كما أحب المسيح كنيسته. نعمة السر تكمّل هكذا الحب البشري القائم بين الزوجين وترسخ وحدتهما التي لا تنفصم، وتقدسهما في طريق الحياة الأبدية"(99) . "إن الكتاب المقدس يبدأ برواية خلق الرجل والمرأة على صورة الله ومثاله، وينتهي برؤيا "عرس الحمل" (رؤيا 19: 9). ويتحدث الكتاب المقدس، على مدى صفحاته، عن الزواج "وسره"، وتأسيسه والمعنى الذي أفرغه الله عليه، ومصدره وغايته، وتطبيقاته المتنوعة على مدى تاريخ الخلاص، وصعوباته الناجمة عن الخطيئة، وتجدده "في الرب" (1قورنتس 7: 39) في العهد الجديد، عهد المسيح والكنيسة"(100) . والكنيسة، من جهتها، فقد دأبت – ولا تزال – على الاهتمام بالأسرة وبسرِّ الزواج، تعليما وممارسة، خاصة في عصرنا الحالي.

    حياة الأسرة البيتية
    تعيش الأسرة في ثلاث دوائر أساسية: البيت، الرعية، المجتمع. بالنسبة للبيت فهي:
    - على صورة الثالوث: إن الأسرة صورة لله، الواحد والثالوث، وانعكاس حي، بين الناس، للعلاقة السريّة بين المسيح والكنيسة. وعليه، فإنها تتأسس على الحب المتبادل، الذي ينشأ بين الزوجين والذي ينمو ويتعمق في مراحل الحياة المختلفة متخذا صورا متعددة (شركة، مشاركة، تعاون، مسؤولية، أمانة في السراء والضراء، وحدة لا انفصام فيها). إن سر الزواج يحوّل الحب البشري المتبادل إلى حبٍ مقدسٍ يرتبط بالمسيح ويستمد منه القوة للتغلب على الصعوبات التي يتعرض لها، ويُعَاش في العفة والأمانة والخدمة والتضحية.
    - شركة أشخاص: يتأسس الحب على شركة أشخاص اختار بعضهم بعضاً بوعي وحرية ومحبة. "العائلة التي تقوم على المحبة وتحيا بها، هي شركة أشخاص، رجل وامرأة يقيّدهما زواج، والِديَن وأولاد، وذوى قربى؛ وتقوم مهمّة العائلة على أن تحيا بأمانة واقع الشراكة وحقيقتها في جهد متواصل لتطوير شركة أشخاص أصيلة. والمبدأ الباطني لهذه المهمة وقوتها الدائمة وهدفها الأخير إنما هي المحبة: وكما أن العائلة دون محبة ليست شركة أشخاص، هكذا لا يمكن العائلة دون محبة أن تحيا وتنمو وتتكامل بوصفها شركة أشخاص"(101) .
    - الفضائل البيتية: إن شراكة الأشخاص، المبنية على المحبة، تنطوي على قيم عائلية تجعل من الأسرة المسيحية مكانا لعيش قيم الملكوت، كما كان الحال في أسرة الناصرة المقدسة. ولقد أوجز القديس بولس هذه القيم بقوله: "وأنتم الذين اختارهم الله فقدسهم وأحبهم، البسوا عواطف الحنان واللطف والتواضع والوداعة والصبر. احتملوا بعضكم بعضا، واصفحوا بعضكم عن بعض إذا كانت لأحد شكوى من الآخر. فكما صفح عنكم الرب، اصفحوا انتم أيضا. والبسوا فوق ذلك كله ثوب المحبة فإنها رباط الكمال. وليَسُدْ في قلوبكم سلامُ المسيح، ذاك السلام الذي إليه دُعيتم لتصيروا جسدا واحدا. وكونوا شاكرين. لتنـزل فيكم كلمة المسيح وافرة لتُعلّموا بعضكم بعضا وتتبادلوا النصيحة بكل حكمة. رتلوا لله من صميم قلوبكم شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحية. ومهما يكن لكم من قول أو فعل، فليكن باسم الرب يسوع تشكرون به الله الآب" (قولسي 3: 12-17).
    - في خدمة الحياة: على مثال الثالوث، الذي تحولت فيه المحبة المتبادلة إلى الخلق وإعطاء الحياة، هكذا تكون الشراكة الزوجية شراكة من أجل إعطاء الحياة والمحافظة عليها وتنميتها. يشترك الزوجان في محبة الله الخالق "بمعاونتهما الحرة المسؤولة في نقل هبة الحياة البشرية: وباركهم الله وقال: انموا واكثروا واملئوا الأرض وأخضعوها (تكوين 1: 28)"(102) . فالخصوبة "ثمرة المحبة الزوجية وعلامتها وشهادة حيّة على تبادل هبة الذات التامة بين الزوجين…"(103) .
    - التربية المسيحية: "وخصوبة الحب الزوجي لا تقتصر على إيلاد البنين،…، لأنها تشمل جميع ثمار الحياة الأدبية والروحية والفائقة الطبيعة"(104) . "إن مهمة الوالدين المسيحيين التربوية… تدعوهم إلى مشاطرة الله الآب والمسيح الراعي السلطة والمحبة، ومشاطرة الكنيسة الأم محبتها الوالدية… ليساعدوا أبناءهم على إدراك نضجهم الإنساني والمسيحي"(105) . وهذا ما التزم به الوالدان لدى قبولهم سر الزواج ولدى تقديم أبنائهم إلى العماد المقدس(106) .

    الأسرة المسيحية في الكنيسة والمجتمع
    الأسرة، كالثالوث، ليست شركة مغلقة، بل منفتحة على محيطها، أي الكنيسة والمجتمع، لتقوم بمساهمتها في بنائهما:
    - في الكنيسة: "من أهم وظائف العائلة المسيحية، وظيفتها الكنسية: أعني تلك التي تضعها في خدمة ملكوت الله… بمشاركتها في حياة الكنيسة ورسالتها" "وهكذا تكون العائلة المسيحية… رمزا وشهادة ومشاركة في أمومة الكنيسة" (107).. من أجل هذا دُعيت العائلة "كنيسة بيتية" وتشترك، بكونها عائلة، في مختلف جوانب رسالة الكنيسة، وفق ظروفها ومواهبها(108) .
    - في المجتمع: إن الانفتاح على حياة الكنيسة هو، في الوقت عينه، انفتاح على المجتمع، الذي تساهم في بنائه، انطلاقا من روح المسيح، بطريقة من الطرق. "هناك وظيفة أخرى للعائلة تقوم على تنشئة الناس على المحبة وإشاعتها أيضا في جميع العلاقات التي تربط في ما بينهم، بحيث لا تنغلق العائلة على ذاتها، بل تنفتح على الجماعة بدافع من الشعور بالعدالة واحترام الآخرين، وبوعيها لما عليها من واجب تجاه المجتمع البشري بأكمله"(109) .

    العمل الرعوي العائلي
    إن غنى المعاني التي تنطوي عليها الأسرة المسيحية تتطلب من الكنيسة تطوير عمل رعوي يساعد الأسرة على وعي ذاتها لتحقق هويتها وتمارس رسالتها. ويمتد هذا العمل على مختلف جوانب حياة الأسرة وعلى مختلف أطوار حياتها. ومما لا شك فيه أن الكنيسة أولت الأسرة دائما الاهتمام والرعاية، تعليما وممارسة، غير إن الظروف الراهنة، التي طرأت على العائلة والحياة الزوجية، تقتضي تجديد هذا الالتزام وفتح طرق جديدة له. "ويجب إن يتم عمل الكنيسة الرعوي تدريجيا بحيث يرافق العائلة ويتابعها خطوة خطوة في مختلف مراحل تنشئتها وتقدمها"(110) . وهذا ما تدعو إليه الكنيسة بإلحاح لإدراكها التحديات الكثيرة التي تواجه العائلة المسيحية: "ولهذا كان لا بدّ من التشديد أيضا على استعجال تدخل الكنيسة الرعوي لمساندة العائلة. ومن الضروري بذل أقصى الجهود لتأمين الاهتمام الرعوي بالعائلة وتطويره. وهذا عمل يجب تقديمه في الواقع، على ما سواه، لأنه ما من شك في أن نشر الإنجيل في مستقبل الأيام سيتوقف على الكنيسة المنـزلية"(111) .

    الإعداد للزواج
    "تدعو الحاجة في هذه الأيام، أكثر من أي وقت آخر، إلى إعداد الشبان للزواج والحياة العائلية"(112) إعدادا بعيدا وقريبا. يعتمد الإعداد البعيد على التعليم المسيحي، والوعظ، وأسلوب الحياة في العائلة المسيحية، وحركات الشبيبة… ويتوجه إلى الأجيال الشابة بتوعيتهم على المبادئ الأخلاقية العامة والمسيحية كي يصلوا سن الزواج وهم يتمتعون بنضج مسيحي يتيح لهم أن يدركوا أهمية الزواج. أما التحضير القريب فيتناول الفترة السابقة للزواج ويعنى بالخُطّاب(113) . يتطلب هذا الإعداد:
    - دورات متخصصة: يقوم الإعداد القريب على لقاءات ودورات متخصصة تهتم بإعداد الخطاب للحياة الزوجية من الناحية النفسية، والاجتماعية، والصحية (الفحص الطبي قبل الزواج الذي يحبّذ أن يقوم به الخطيبان والذي يجب إن يؤخذ بجديّة)، والطقسية والدينية انطلاقا من ظروف الحياة العائلية في بلادنا وحاجاتها وصعوباتها، وأن يشترك في ذلك عائلات مسيحية ملتزمة، من منطلق أن "العائلة هي رسول العائلة". من الضروري إن تمتد هذه اللقاءات على فترة معقولة من الزمن ويمكن إن تُنَظّم على مستوى المنطقة بحيث يشترك فيها عدد من الخطَّاب معا.
    - إن مثل هذه الدورات لا يمكن إن تُرتجل، بل إنها بحاجة إلى أدوات مساعِدة (كتب مختصة وغيرها من الأدوات) ومضمون مناسب (الإيمان الشخصي، اكتشاف معنى الأسرار، اختبار الصلاة، الإعداد للحياة المشتركة، سر الزواج، القضايا الخلقية المتعلقة بالزواج كتحديد النسل تحديداً اصطناعياً، والإجهاض، والتعقيم، والزرع والإخصاب الاصطناعيين…، والأبوة المسؤولة بالإضافة إلى المبادئ الطبيعية والبيولوجية المرتبطة بهذه الأمور، تربية البنين، على أن يتم عرض العقيدة المسيحية حول هذه الأمور بشكل واضح…)، وأسلوب خاص يكون أقرب من الحوار ومشاركة المعنيين منه إلى التعليم الأكاديمي ويشكل بالنسبة لهم مسيرة إيمانية حياتية، والى أشخاص (بالإضافة إلى الكاهن، أطباء، علماء نفس واجتماع، لاهوتيين، أسر مسيحية…) مدرَّبين لهذه الغاية(114) .
    - إن مثل هذه الدورات لا تغني عن التحضير المباشر مع كاهن الرعية لإعداد الاحتفال الليتورجي والروحي المباشر (خاصة عن طريق سر التوبة)، ومساعدتهم على تطبيق ما تعلموه ضمن رعيتهم (الصلاة البيتية، التأمل في كلمة الله، الاهتمام بثقافتهم الدينية…)، ودعوتهم إلى المشاركة الملموسة في حياة الرعية.

    الاحتفال بسر الزواج
    إن الاحتفال بسر الزواج هو ذروة هذه المسيرة الاستعدادية. وهذا ما يتطلب جهدا خاصا في أبرشياتنا نظرا للطابع الاجتماعي الذي تتخذه مثل هذه الاحتفالات. إن التركيز على الطابع الإيماني وإدراج الحاضرين في هذه المناسبة الإيمانية تطلب إعدادا جيدا لهذا الاحتفال بحيث يكون حقا احتفالا بسر من الأسرار الذي يمنح النعمة وليس مجرد مناسبة اجتماعية. ويتناول هذا الإعداد المراحل المختلفة للاحتفال (شروحات بسيطة، وحركات معبرة، وتراتيل مناسبة، وتزويد الجماعة بالكتب الطقسية التي تساعدهم على الاشتراك الفعلي في هذا الاحتفال الديني…). ويجب ان يشمل الإعداد الليتورجي جميع مراحل الاحتفال (خدمة الكلمة، علامات السر، الوعظ، البركة، ترتيب القداس الإلهي بشكل مميز إذا تم الإكليل أثناء الذبيحة الإلهية…). ان الوضع الراهن يقتضي القيام بمجهود حقيقي في هذا المجال، وهو مجهود بحاجة الى صبر ومثابرة وإصرار تتضافر فيه جميع الرعايا كي نصل إلى نتيجة حقيقية.

    المتابعة بعد الزواج
    ان العمل مع الأسرة المسيحية لا يتوقف عند الزواج، بل يستمر ليرافق الأسرة المسيحية في مسيرة حياتها المسيحية فتوفر لها ما تحتاج إليه من مساندة. وهذا ما يمكن أن يتم عن طريق:
    - الاهتمام بالعائلات الشابة في الرعية بنوع خاص، وبالعائلات في مختلف الأعمار بشكل عام.
    - إنشاء حركة رسولية تعنى بالعائلات من جميع النواحي كي تتمكن من الاستمرار في إدراك هويتها وحمل رسالة المسيح الى أبنائها وجميع الناس (حركة الأسر الملتزمة مثلا والموجودة في بعض الرعايا).
    - إنشاء هيئة تتابع العمل الرعوي العائلي من جوانبه المختلفة وتتخذ المبادرات المتعلقة به.
    - الاهتمام بمشاكل جديدة تواجهها الأسرة اليوم (العائلات المفككة، العائلات المنفصلة، العائلات التي تعيش حالات غير قانونية، مراكز للإرشاد الأسري الخ...).
    - تنظيم وتوحيد المحاكم الكنسية.

     

    خاتمـــة

    "وإنا لنراه واجباً علينا أن نطلب من أبناء الكنيسة أن يبذلوا جهداً خاصاً في هذا المجال (مجال الأسرة). فهم، فيما يكتشفون، بالإيمان، قصد الله العجيب، يجدون بالتالي دافعاً أكبر يحملهم على إعارة العائلة، في واقعها، ما ينبغي من الإهتمام في هذه الأيام، أيام الشدّة والنعمة. فعليهم أن يندفعوا، على الأخص، الى محبة العائلة. وهذه وصية أكيدة عليهم الإلتزام بها عملياً. .

     

     قرارات

     1 - إنشاء لجنة أبرشية تهتم بالعمل الرعوي المتعلق بالأسرة.
    2 - الاهتمام بتزويد المؤمنين بالتعليم المتصل بالأسرة، والقيام بعمل توعية للجوانب
          الخلقية المرتبطة بالزواج اليوم.
    3 - إنشاء مراكز إرشاد لرعاية الأسر ومرافقتها ومساعدتها على حل المشاكل التي
         تعترض حياتها وذلك في جميع المناطق، على يد مختصين وذوي خبرة.
    4 - إعداد خطة عمل إلزامية تخص سر الزواج وتشمل الإعداد قبل الزواج ومتابعة
          الأسر الشابة بعد الزواج.
    5 - تحديد وإقرار فحص طبي للزوجين قبل الزواج في مراكز تعتمدها الكنيسة.
    6 - تطوير حركة للعائلات المسيحية، خاصة الشابة منها، على مستوى الأبرشية.
     
     
     
    ---------------------------------------------
     
    96  الوثيقة الأساسية: معا نحو السينودس للكنائس الكاثوليكية في الأرض المقدسة، رقم 7.
    97  راجع في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، رقم 1.
    98  التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1660.
    99  المرجع نفسه، رقم 1661.
    100  المرجع نفسه، رقم 1602.
    101  في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، رقم 18.
    102  المرجع نفسه، رقم 28.
    103  المرجع نفسه، رقم 28.
    104  المرجع نفسه، رقم 28.
    105  المرجع نفسه، رقم 38.
    106  راجع رتبة الزواج والعماد في الطقس اللاتيني، خاصة الأسئلة الموجهة لهم في هاتين الرتبتين.
    107  في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، رقم 49.
    108  راجع المرجع نفسه، رقم50، وكذلك رقم 51-64.
    109  المرجع نفسه، رقم 64.
    110  المرجع نفسه، رقم 65.
    111  المرجع نفسه، رقم 65.
    112  المرجع نفسه، رقم 66.
    113  راجع الإعداد للزواج، الذي أصدره المجلس الحبري للعيلة، الذي يتناول هذا الموضوع
            بالتفصيل.
    114  راجع الإعداد للزواج، رقم 21-59.
    115  في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، رقم 86.







    الرعية هويتها: ورسالتها

    دور أساسي

     تلعب الرعية كمؤسسة (أي الكنيسة، ودير الكاهن والراهبات، والمدرسة، وتوابعها…) دورا هاما، لا بل أساسيا، في حياة المؤمنين، من الناحية القانونية (معاملات)، والاجتماعية (نشاطات اجتماعية مختلفة)، والدينية (العماد، التثبيت، الزواج، الدفن، التعليم المسيحي…)، كما تلعب دورا هاما في تحديد هويتهم. فالانتماء الديني الاجتماعي، بشكل عام، ركن رئيس في بلادنا، والرعية هي المكان الذي يُعاش فيه هذا الانتماء، على المستوى الفردي والعائلي والاجتماعي. "تبقى الرعية المكان الذي يشدّ إليه، بأوثق رباط، الشعب المسيحي وحتى من لا يمارسون الفرائض الدينية"(116) ، وهي البؤرة التي تتمحور حولها الحياة الروحية والكنسية والاجتماعية للمؤمنين. فعلى المستوى الاجتماعي تتمتع الرعية بدرجة عالية من المصداقية في المجتمع عموما، حيث انها تستقبل الجميع بغير استثناء، وتعتبر مرجعا في الإشكاليات الاجتماعية التي تحصل في بيئتنا، خاصة القروية منها. وعلى المستوى الديني والكنسي والروحي، فالرعية هي مركز لقاءات واحتفالات وصلوات واجتماعات وندوات وتعبدات شعبية تترك أثرها في النفوس، وتساهم اليوم – كما ساهمت في الماضي – في المحافظة على الإيمان، كما أنها مركز إشعاع لغير المؤمنين. ان جميع هذه الإمكانيات تجعل الرعية مكانا لا بديل له للتجدد الروحي والكنسي والديني والاجتماعي في أبرشياتنا.

    تساؤلات وحدود
    مع كل هذا، فان لهذه المؤسسة القديمة والجليلة حدودها، وتثير بعض التساؤلات، كما وتشوبها بعض النواقص التي لا بد من التوقف عندها بينما نتطلع الى المستقبل. فالتعريف الاجتماعي لها (الذي تعبر عنه كلمة "طائفة") يتغلب في كثير من الأحيان، على التعريف اللاهوتي والكنسي (الذي تعبر عنه كلمة "رعية") . وهذا ما يجعلها في نظر البعض مجرد مركز خدمات اجتماعية يلجأون إليه عند الحاجة المادية والمساعدات، أو مركز ترفيهي يقصدونه لما يوفره من خدمات في هذا المجال، أو مركز لخدمات قانونية (معاملات، شهادات…)، أو مركز لخدمات دينية تحولت الى مجرد عادات وتقاليد اجتماعية (عماد، زواج، دفن…) بعيدة أحيانا عن المعنى الديني الحقيقي. أما العلاقات القائمة بين أبنائها وبين أبنائها والفئات الاجتماعية والدينية الأخرى، فكثيرا ما تتحكم بها العادات والتقاليد السلبية السائدة في المجتمع (الروح العشائرية، الحزازات العائلية، روح السيطرة والزعامة، التعصب…) التي تعطل حركتها ونموها الروحي. أضف الى ذلك أن المتغيرات الاجتماعية الحاصلة (سرعة التنقل، ظروف العمل، الحركة في المجتمع، تطور أماكن هوية وانتماء غير الرعية…) (117)حدّت إلى درجة ما من المركزية التقليدية للرعية. ونظرا لتنوع الحاجات الروحية والرعوية، فالرعية لم تعد قادرة لوحدها على تلبية جميع هذه الحاجات بسبب حدود إمكانياتها. وهذا ما يدفع بالبعض الى البحث عن أماكن أخرى لسد هذه الحاجات.

    تجديد
    لا تزال الرعية مؤسسة كنسية ثابتة وقوية وضرورية لا يمكن الاستغناء عنها. ففيها من الإمكانيات الاجتماعية والدينية والروحية ما لا تستطيع أن تضاهيها فيها أية مؤسسة موازية، أيّا كانت. مهما قيل في الرعية، وبالرغم مما علق بها من سلبيات، فيجب ان تظل موضع اهتمام ورعاية. فهي المؤسسة "القديمة والجديرة بالإجلال، والتي تحمل رسالة تتلاءم جدا مع واقعنا الحالي، ولا غنى عنها"(118) . وهذا ما يدعو الى المحافظة على الرعية والتمسك بها، وما يدعو أيضا، في الوقت عينه وبالقوة نفسها، الى تجديد وجه الرعية وإحيائها وتنشيطها وتفعيلها ومواجهة ما علق بها من شوائب ونقائص كي تواصل رسالتها الاجتماعية والدينية والروحية، وتأخذ حجمها الحقيقي وسط المتغيرات الاجتماعية والكنسية والدينية والروحية. "يقضي الرأي السديد المستند الى الحقيقة والواقع، كما تقضي الحكمة بعقد العزم على مدّ هذه الرعية، لدى الحاجة، بهيكليات أكثر ملاءمة، وبالأخص، على إعطائها دفعا جديدا"(119) .ان تجديد حياتنا الكنسية يبدأ بالرعية ويمر بها، وبدونها لا يمكن أن يحصل أي تجديد رعوي وكنسي حقيقي. ويشمل هذا التجديد الرؤية اللاهوتية والروحية والدينية والرعوية والاجتماعية.

    هــويـــة
    بينما نتطلع الى مستقبل الرعية في الألف الثالث من تاريخنا، من الضروري العودة الى جذورها اللاهوتية والإيمانية. إن أي تجديد رعوي لا يمكن ان ينطلق إلا من هذه الرؤية اللاهوتية التي تتخطى مفهوم "الطائفة" كحقيقة مغلقة الشائع في بيئتنا المسيحية والكنسية والذي يعطّل عملنا الرعوي وتعاوننا في ما بيننا. ان الرعية، قبل كل شيء، هي "نوعا ما، الكنيسة المنظورة القائمة على الكرة الأرضية"(120) . وعليه، فالرعية "ليست أولا بُنية وأرضا ومبنى، بل هي، قبل كل شيء، أسرة الله وجماعة أخوية، تحييها روح واحدة"(121) ، وهي "الموقع الأخير لِتَمَرْكُز الكنيسة. فهي، على وجه ما، الكنيسة ذاتها، عائشة في عقر دار أبنائها وبناتها"(122) . في الرعية، يصبح الانتماء الى الكنيسة واقعا حيا، وملموسا، ومرئيا. انها "جماعة المؤمنين"(123) و"بيت العائلة الأخوي، المضياف، حيث يشعر المعمدون والمثبتون بأنهم شعب الله"(124) . انها "الشعب الجديد الذي دعاه الله في الروح القدس وكمال اليقين. فيها يتجمع المؤمنون للدعوة بإنجيل المسيح، وفيها يحتفل بعشاء الرب"(125) . ان الرعية، في نهاية الأمر، مؤسسة على واقع لاهوتي: فهي "جماعة إفخارستية" تتأسس على الاحتفال بالخبز الواحد والكأس الواحدة مما يجعلها شعب الله الواحد (راجع 1قورنتس 10: 16)(126) ، وهذا ما يجعلها "جماعة إيمان وجماعة عضوية، أعني أنها مؤلفة من إكليريكيين مرتسمين ومن غيرهم من المسيحيين، يرئسهم كاهن الرعية المسؤول، الذي يربط الرعية مراتبيا بالكنيسة الخاصة كلها، بصفته ممثل لأسقف الأبرشية"(127) . ان هذه الهوية اللاهوتية والإيمانية لا تلغي بالطبع دور الرعية الاجتماعي، بل بالعكس تعطيه مضمونا وروحيّة، حيث ان هذه الرؤية الإيمانية لها انعكاساتها العميقة على المستوى الاجتماعي.

    حياة الرعية
    تتمحور حياة الرعية حول الجوانب الثلاث لرسالة الكنيسة، وتكون رعية المسيح حقا، إذا سعت الى ترجمة هذه الجوانب في حياتها، وحوّلتها الى واقع رعوي حي:
    - خدمة الشركة: في الرعية تتجسد بشكل ملموس الشركة الكنسية على مثال الثالوث الأقدس. فهي تجمع المؤمنين حول كلمة الرب والإفخارستيا، ليكونوا جسدا واحدا يعيش في المحبة. وهذه الشركة ليست شركة مغلقة، بل منفتحة (على الأبرشية، على الكنائس المسيحية الأخرى، على الديانات الأخرى، على المجتمع) من أجل إعطاء الحياة(128) . ليست الرعية جماعة من أجل ذاتها، بل انها شركة من أجل الرسالة (جماعة رسولية)(129) . إن تعزيز الشركة في الداخل ومع الخارج من أولى مهام الرعية المدعوة إلى أن تكون جماعة محبة. وهذا ما يقضي إيجاد آلية تواصل تضمن هذه الشركة وتعززها وتقويها بحيث تكون الرعية عائلة كبيرة.
    - خدمة الليتورجيا: وتشمل الأسرار وأمور العبادة بجميع أوجهها وأشكالها. فالرعية "جماعة إفخارستية" أي مؤهلة لان تحتفل بالافخارستيا التي هي قمة الأسرار والتي هي أجمل تعبير عن سر الكنيسة(130) . والرعية هي مركز الحياة الليتورجية، من احتفال بالأسرار وصلوات وأعياد وفترات سجود واحتفالات بالتوبة وتساعيات، وهذا ما يتطلب عملا رعويا يحوّل الاحتفالات الليتورجية الى ينبوع حياة وحيوية في الرعية.
    - خدمة الكلمة: ويشمل كل ما يختص بخدمة الكلمة من تبشير وتربية إيمان ووعظ وشهادة حياة ومنشورات ومحاضرات وندوات وحلقات دراسية وسهرات إنجيلية ورياضات روحية وكل ما يدور حول كلمة الله من نشاط رعوي. "ان الجماعة الرعوية، بما انها موجودة في كل مكان، يجب أن تبقى هي التي تشجع التعليم المسيحي وتستحث الهمم على تلقينه"، و"تبقى الرعية المكان المفضل الذي يلقن فيه التعليم المسيحي"(131) ، وهذا كله بحاجة إلى خطوات عملية تجعل خدمة الكلمة واقعاً ملموساً في حياة رعايانا.
    - خدمة المحبة: ان المحبة، التي تعيشها الرعية، تتحول الى التزام تجاه الفقراء والمعوزين والمحتاجين والمهمشين من أبنائها ومن جميع الناس، على مثال الكنيسة الأولى، حيث "لم يكن فيهم محتاج"، لأن "كل شيء مشترك بينهم" (أعمال الرسل 4: 34، 32؛ وكذلك 2: 42-47). وهذا ما يستلزم استثمار الطاقات البشرية والماديّة في الرعية لوضع المحبة موضع التطبيق الملموس والعملي(132).

    العمل الرعوي في الرعية
    ان العناصر الأساسية التي يتكون منها العمل الرعوي (خدمة الشركة، والليتورجيا، والكلمة، والمحبة) هي التي يجب ان تتحول الى مشروع رعوي متكامل يعطي لكل جانب من هذه الجوانب حقه من الاهتمام الرعوي، مع ما يترتب على ذلك من أدوات وهيئات تساعد على وضعه موضع التنفيذ العملي. بالإضافة الى ذلك، لا بدّ من الملاحظات التالية:
    - الرعية هي الأساس: ان الرعية هي الخلية الأساسية التي يجب أن تستحوذ على جهدنا الرعوي، والتي يجب ان تأخذ الأولوية على أي عمل آخر (المشاريع، البناء، إدارة المدرسة وما شابه). ان الشعب المؤمن، الذي تتكون منه الرعية، بكل أفراده وفئاته وأعماره، هو المُستهدف الأول والأساسي لعملنا الرعوي. وهذا ما يتطلب توفر المعلومات الدقيقة عن المؤمنين في الرعية (عدد، أعمار، فئات وغير ذلك من المعلومات) عن طريق الوسائل الحديثة المتاحة. وهنا لا بدّ من التنويه إلى الكنائس الخاصة بالأديرة التي يرتادها المؤمنون يوم الأحد، والتي تستدعي الاتصال بالرعية وكاهنها كي تكون هذه الكنائس رافدا من روافد الرعية، لا حاجزا بين المؤمنين ورعيتهم.
    - التعاون بين الرعايا الكاثوليكية القائمة في نفس الحيز الجغرافي، علما بأن رعايانا، على اختلاف طقوسها، قريبة بعضها من بعض، وتتوجه إلى أناس يعرف بعضهم بعضا ويتلاقون باستمرار في الحياة اليومية. وهذا كله بحاجة إلى بنية عملية (التعاون بين المجالس الرعوية، أو إنشاء مجلس رعوي مشترك…) تساعد على اتخاذ المبادرات المناسبة والمشاركة في الموارد الروحية لصالح الجميع.
    - الانفتاح على الأبرشية: ان الكنيسة الخاصة هي حصة شعب الله الموكلة الى الاسقف(133) . الأبرشية هي الوحدة الأساسية في نظام الكنيسة الإلهي. وأما الرعية فهي خلية في هذا الجسم الكبير. وتعيش هذه الخلية وتنمو وتترعرع بقدر ما تنفتح على حياة الأبرشية وتتفاعل معها. ومتى انغلقت على نفسها، فإنها تموت كما تموت الخلية التي تنسلخ عن الجسم. ان الانفرادية في العمل الرعوي، وما ينتج عنه من ارتجال وسطحية وعدم متابعة، يعود الى غياب تخطيط رعوي واضح في الأبرشية يساعد الرعية على ان تكون خلية حية في الجسم الأبرشي. ان الرؤية اللاهوتية والحاجات الرعوية المتنوعة والمتنامية تقتضي التفاعل المستمر والمتبادل بين الرعية والأبرشية، وأيضا التفاعل المتبادل بين الرعايا المتواجدة في المنطقة الواحدة(134) .
    - الدور الاجتماعي: لا تقتصر هوية الرعية على دورها الاجتماعي ولكن يبقى لهذا الجانب من حياتها أهمية خاصة. ففيها ينفتح المؤمنون بعضهم على بعض وعلى المجتمع، بهدي من الإنجيل، وليس على أساس العلاقات الاجتماعية التقليدية التي تخلو، في بعض الأحيان، من الروح المسيحية. وهكذا تكون الرعية مكانا لتنمية علاقات اجتماعية تستلهم الإيمان وتتخطى العقلية العشائرية، فتساهم بذلك في تطوير المجتمع وتقدمه. وهذا الدور الاجتماعي لا تستطيع الرعية أن تقوم به إلا من خلال نشاطات وفعاليات ملموسة، على الصعيدين الداخلي والاجتماعي، تساهم في بناء عائلة روحية واسعة، متحدة ومنفتحة على العالم الخارجي بروح المسيح ورسالته.
    - التعددية: الرعية هي قسم من شعب الله، الذي يتسم بالتعددية بأشكالها المختلفة (الروحية، والثقافية، والاجتماعية، والتعددية من حيث الانتماء والعمر والجنس…). وهذا يفترض ان تكون الرعية قادرة على استيعاب هذه التعددية فتتحلى بالروح المضيافة لجميع أبنائها، القريبين والبعيدين، بالرغم من اختلافاتهم الكثيرة، بحيث لا يشعر أحد انه غريب عن رعيته. وفي هذا المجال، يجب ان يظل الأباعد موضع اهتمام خاص ومبادرات رعوية مستمرة. ويتبين من الخبرة أن زيارات المؤمنين في بيوتهم بغير تمييز مهمة كي تبقى الجسور مفتوحة بين الرعية وجميع أبنائها.
    - التخطيط الرعوي: إن العمل في الرعية شكل من أشكال عمل الله في تاريخ البشر بواسطة روحه القدوس. وهذا يعني عمليا ان العمل الرعوي لا يمكن ان يقتصر على المبادرات الشخصية العابرة أو العاطفية أو العمل العفوي. يحتاج العمل الرعوي اليوم الى تخطيط وتقويم، من منطلق الواقع المعاش للجماعات الكنسية. وهذا أمر جديد على رعايانا وعلى طريقة التفكير السائدة الى الآن حول العمل في الرعية. صحيح ان العمل الروحي أصله الله ومحركه الأول الروح القدس، لكن صحيح أيضا ان نعمة الله تمر من خلال وسائط بشرية من أشخاص وأعمال ومشاريع. وهذه أمور تحتاج الى تفكير وتخطيط ووسائل وأدوات عمل جدي ومتكامل ومثابر، على أن يتم ذلك بروح الله وبدافع من الروح القدس. إن مثل هذا التخطيط، خاصة على المستوى الأبرشي، يساعد على الاستمرارية في العمل الرعوي، بدل ان يظل جهدا فرديا ينهار في حالة انتقال كاهن الرعية إلى مكان آخر.
    - الحركات الرسولية: كانت الرعية دائما مكانا لتطور الحركات الرسولية المتعددة والمختلفة. قد يبقى الفرد في الرعية – سواء كانت صغيرة أم كبيرة – مبهما يصعب عليه الشعور بالانتماء الى جسم الرعية الكبير. أما هذه الحركات فإنها تساعد على الانتماء الى الرعية من خلال الانتماء الى جماعة من هذه الجماعات لما توفره من علاقة إنسانية واهتمام شخصي والإصغاء الواقعي لكلمة الله انطلاقا من الواقع المُعاش(135) . أما الروحانية، التي يجب أن تسير على نهجها هذه الحركات والجماعات، فهي انفتاحها بعضها على بعض وانفتاحها على الرعية بشكل عام، بروح التكامل من أجل البنيان المشترك، بعيدا عن الانغلاق والأنانية والتنافس. ان هذه الجماعات لا تغني، من ناحية أخرى، عن العلاقات الشخصية في الرعية بحيث يشعر أبناؤها انهم ليسوا أرقاما بل أشخاصا لهم كرامتهم واحترامهم.
    - دور العلمانيين: ان اشتراك العلمانيين في رسالة الكنيسة من العلامات الكبرى في كنيسة العصر الحالي، وتوليه الكنيسة أهمية كبرى حيث تدعو الرعاة بإلحاح الى "التوسع في إشراك العلمانيين في المسؤوليات الرعوية"(136) . وهذا ما يقتضي حوارا مستمراً بين الكهنة والعلمانيين، رجالا ونساء، مبنيا على عقلية كنسية حقيقية وصولا الى أرضية كنسية مشتركة يمكن التعاون من منطلقها بروح خلاقة وحقيقية(137) . إن مثل هذا التعاون، بالإضافة إلى طابعه العفوي، يجب أن يتخذ طابعا مؤسساتيا بروح كنسية أصيلة، وأن يمتد هذا التعاون على مختلف الرعايا الكاثوليكية المتواجدة في نفس المكان.
    - التوجه الإرسالي: تحمل الرعية همَّ الرسالة العامة للكنيسة وتساهم فيها بصوّر مختلفة. إن الرعية هي جماعة مُرسَلَة. وعليه لا تستطيع أن تنغلق على نفسها، بل عليها أن تحافظ على روح الرسالة تجاه جميع أبنائها (الملتزمين والأباعد)، وتجاه الجميع (الاهتمام بالمؤمنين المشتتين بأعداد صغيرة في القرى هنا وهناك)، ليكون أبناء الرعية قادرين أن "تردوا على من يطلب منكم دليل ما أنتم عليه من رجاء... بوداعة ووقار" (1بطرس 3: 15-16) أمام جميع الناس.
    - الدور المادي: يجب أن يُنظَّم الوضع المالي للرعية بشكل جدي، فيساهم العلمانيون في دعم الرعية ماديا، على أساس من الوضوح ومعرفة الحاجات والمسؤولية.

    دور كاهن الرعية
    في وسط الجماعة المؤمنة يتحمل كاهن الرعية مسؤولية كبيرة:
    - دور أساسي: يلعب كاهن الرعية دورا محوريا وأساسيا في حياة الرعية. فالمسؤولية الكبرى في تنظيم العمل الرعوي تقع على عاتقه. وكما كان للمتغيرات الكثيرة، في المجتمع وفي الكنيسة، انعكاسها العميق على هوية الرعية ورسالتها، كان لها كذلك انعكاسها على هوية الكاهن أمام نفسه وأمام المؤمنين وأمام المجتمع، مما يقتضي التفكير الدؤوب كي يحدد الكاهن، وسط جميع هذه المتغيرات، بحيوية وإبداع، هويته ورسالته ودوره. ان التحديات والنداءات كثيرة وتتطلب التعمق في هوية الكاهن ورسالته فيكون المسؤول والمرشد والأب والأخ والمنشط والمنظم والمربي في رعيته. وهذا ما يتطلب أيضا تهيئته لهذا الدور، وإعادة النظر في أولوياته كي تتناسب مع هويته ورسالته.
    - العمل مع…: لا يستطيع الكاهن اليوم ان يقوم برسالته لوحده، بل بالتعاون مع الرعية وأبنائها وفعالياتها (الرهبان والراهبات، والحركات المختلفة، والعلمانيين). فصورة كاهن الرعية "الذي يقوم بكل شيء بنفسه" و"الملك في رعيته" يجب ان تفسح المجال لكاهن الرعية "الذي يعمل مع…"، بالرغم من الصعوبات والعقبات.
    - الروح الرسولية: إن هوية الكاهن مرتبطة برسالته، التي تتأسس على حياة روحية قوية وحقيقية، بحيث يجد فرحه وسعادته وانشراحه وتحقيق ذاته ونموه الإنساني والروحي في عمله الرعوي. فهو خادم الشركة والليتورجيا والكلمة والمحبة في الجماعة المؤمنة (138)، والمعروفة بالرسالة التقديسية والتعليمية والرعوية. وهذا ما يتطلب منه روح التمييز بحيث يكتشف الإمكانيات والمواهب والعطايا المختلفة في رعيته (بما فيها الدعوات الكهنوتية والرهبانية) لكي يدعوها الى المساهمة في العمل الرعوي وتطويره. ينطبق على الكاهن بشكل خاص ما يقوله القديس يوحنا فم الذهب: "لا أظن أن الإنسان يمكن أن يخلص بدون أن يعمل من أجل خلاص إخوته".
    - في الجماعة ومع الجماعة: ان الجماعة المؤمنة هي المكان الطبيعي لحياة الكاهن ومبرر وجوده، إذ يعيش فيها هويته ودعوته ورسالته. فحياته حياة في الجماعة ومع الجماعة ومن أجل الجماعة، وفرحه الأكبر هو مرافقة الجماعة المسيحية بصبر وأناة ومثابرة كي تستجيب لدعوتها ورسالتها. وهذا ما يقتضي من الكاهن الإقامة الحقيقية والدائمة في رعيته، كي يبنيها جماعة متحابة ومشارِكة.

    الاهتمام بكاهن الرعية
    إن الرسالة الملقاة على عاتق كاهن الرعية تستدعي الاهتمام به، لأنه بحاجة الى سند إنساني وروحي وفكري ورعوي، من جانب رئاسته الكنسية، ومن جانب إخوته الكهنة، ومن جانب المؤمنين، خاصة العلمانيين الملتزمين. وهذا بالطبع لا يعفي الكاهن من الاعتناء بنفسه كي يتجدد عطاؤه باستمرار. ويتجسد هذا السند في العناية القصوى بهذا الرصيد الابرشي الأساسي الذي لا يقدر بثمن، والمتمثل بكاهن الرعية:
    - العناية الروحية، بحيث يجد الوقت الكافي للوقوف أمام ربه، الذي يحبه ويدعوه ويقدسه (الرياضات الروحية، السنوية والشهرية، الصلاة والتأمل والصلوات الليتورجية، المثابرة على قراءة وتأمل كلمة الله…)، فلا يفقد هويته كرجل الله وخادم الجماعة المؤمنة؛
    - العناية الإنسانية، بحيث يحافظ على اتزانه الإنساني والاجتماعي فلا يتعرض لليأس والقنوط والإحباط في مجتمع لم يعد يسنده كالسابق، وهذا ما يتطلب إعطاءه الوقت الكافي لتجديد قواه الجسدية والروحية؛
    - العناية الرعوية، بحيث يجد في التنشئة المستمرة الجادة دافعا الى فهم ما يجري حوله في الكنيسة والمجتمع ليكون قادرا على اتخاذ المبادرات المناسبة. وتقضي هذه العناية الرعوية تزويد الكاهن بالأدوات والوسائل التي تسهل عليه العمل الرعوي وسط النداءات الكثيرة والمتشعبة التي يجد نفسه في وسطها؛
    - العناية الثقافية اللاهوتية والإنسانية، كي لا ينقطع عن حركة الكنيسة والمجتمع وذلك بتنظيم دوري لبرنامج يشمل هذه النواحي من حياة الكاهن؛
    - العناية المادية، التي تخضع لمقاييس احتياجاته وأيضا لمقاييس دعوته ورسالته وشهادته، فيتفرغ لرسالته الأساسية في الرعية.
    إن مرافقة كاهن الرعية بحب وحنو وأبوّة، ومساعدته على فهم التحديات والمستجدات والنداءات والاستجابة لها، أولوية في حياة الأبرشية. "لا تهمل الموهبة الروحية التي فيك" (1طيموتاوس 4: 14) و"لذلك أنبهك أن تذكي هبة الله التي فيك بوضع الأيدي" (2طيموتاوس 1: 6). "ارعوا قطيع الله الذي وكل إليكم واحرسوه طوعا لا كرها، لوجه الله، لا رغبة في مكسب خسيس، بل لما فيكم من حميّة. ولا تتسلطوا على الذين هم في رعيتكم، بل كونوا قدوة للقطيع. ومتى ظهر راعي الرعاة تنالون إكليلا من المجد لا يذبل" (1بطرس 5: 1-4).

    التنشئة الكهنوتية والرهبانية
    إن كل ما يقال عن الرعية وعن كاهن الرعية، كتلك الواردة في هذا المخطط الرعوي (وعن جميع التوجهات الرعوية بشكل عام)، يعيدنا إلى التنشئة الكهنوتية في المعاهد الإكليريكية وكذلك إلى التنشئة الرهبانية في بيوت الابتداء، التي تعمل على إعداد الكهنة والرهبان والراهبات ليتولوا رسالتهم في كنيسة اليوم بعقلية منفتحة ومتطورة. في هذه المعاهد والبيوت يمكن أن ينشأ جيل جديد من الكهنة والرهبان والراهبات، الذين يتحلون - بالإضافة إلى الروحانية المسيحية وتلك الخاصة بهم - بالعقلية الكنسية الحقيقية القادرة على استيعاب تطلعات الكنيسة والاستجابة لها والقيام بدورهم فيها، فيكونوا رسلا على مستوى الأحوال والتحديات الراهنة ويحملون الإنجيل إلى عالم اليوم.
    وهذا كله يدعو إلى التفكير مليّا بالتنشئة الملائمة، إنسانيا وثقافيا وروحيا، بحيث يتحلّى كاهن أو راهب أو راهبة المستقبل بروح التعاون مع فئات شعب الله، والحس الكهنوتي والرهباني والرعوي، والنظرة الروحية إلى الأمور، وروح التمييز للأوضاع الاجتماعية والثقافية والبيئة الكنسية التي نعيشها اليوم، والانفتاح على حياة الأبرشية، والانفتاح على دور ا

    العلمانيون في الكنيسة

    رسالة العلمانيين في بلادنا

    تتأسس رسالة العلمانيين في الكنيسة على العماد والميرون، اللذين يجعلان من كل مؤمن بالمسيح عضوا كامل العضوية في الجماعة المؤمنة ومشاركا في حياتها ورسالتها، في التعاون والتواصل مع الفئات الأخرى من شعب الله الواحد. ولقد اتخذت هذه الرسالة أشكالا مختلفة في تاريخ الكنيسة. ومما لاشك فيه أن رسالة العلمانيين برزت بروزا قويا ومميزا في عصرنا الحالي لأسباب شتى، وهي اليوم من العلامات الكبرى في حياة الكنيسة ومؤشر لعمل الروح القدس فيها. ولقد كرّس المجمع الفاتيكاني الثاني هذا التوجه وأعطاه دفعة قوية إلى الأمام(139).
    وما يحصل في الكنيسة الجامعة يجد صداه أيضا في بلادنا. فقد وجد العلمانيون دوما دورا لهم بشكل أو بآخر ومهما كان محدودا في حياة الكنيسة. كما أن أبرشياتنا تفاعلت مع ما يجري في الكنيسة الجامعة، خاصة بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، وأفسحت المجال لمزيد من مشاركة العلمانيين في حياتها ورسالتها.
    وهذا ما يدعونا إلى الاهتمام الجاد بهذا الجانب من سر الكنيسة إنطلاقا من خبرتنا الماضية، وواقعنا الحالي، وتطلعاتنا المستقبلية، وذلك كي يأخذ العلمانيون دورهم الحقيقي والفاعل والمتفاعل في حياة الكنيسة. وهنالك الكثير ما يمكن عمله معا في هذا المجال، كي تجد شخصية العلماني موقعها الحقيقي في الكنيسة، لا على مستوى التنفيذ فحسب، بل أيضا على مستوى التفكير والقرار، ضمن النظام الكنسي العام.

    الحركات الرسولية والجماعات الرسولية في أبرشيتنا
    إن الحركات الرسولية والجماعات الكنسية المختلفة (140) هي إحدى الترجمات الواقعية والملموسة لرسالة العلمانيين في الكنيسة. ولقد ازدهرت في أبرشياتنا منذ زمن طويل هذه الحركات والتجمعات على اختلاف أنواعها (الأخويات، الجمعيات، الرهبنات الثالثة…) بدعم من السلطة الكنسية والكهنة في رعاياهم، ولكن مشاركتها في رسالة الكنيسة كانت محدودة. وعندما تطورت الرؤية اللاهوتية لرسالة العلمانيين، انتشرت في الكنيسة حركات كان لها طابع رسولي (كحركات الشبيبة بفروعها المختلفة، والليجومارييه، والحركة الكشفية الكاثوليكية، وغيرها). ولقد وجدت هذه الحركات طريقها الى أبرشياتنا وساهمت في تقدم رسالة العلمانيين خطوة الى الأمام، خاصة بعد الدفعة القوية التي أتتها من المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي أولى رسالة العلمانيين عناية خاصة. وانطلاقا من هذه الدفعة، انتشرت أيضا في الكنيسة "جمعيات ورابطات وجماعات وحركات"(141) جديدة، بموهبتها وروحانيتها ونهجها وطريق عملها الخاص بها(142)  ، وجدت هي الأخرى، بشكل أو بآخر، طريقها الى أبرشياتنا (الفوكولاري، الموعوظية الجديدة، إيمان ونور التي تعنى بالمعاقين، وغيرها). ولا بد من القول ان رسالة العلمانيين وجدت في مختلف هذه الحركات والجماعات، قديمها وحديثها، تعبيرا حقيقيا لها، وأن عددا كبيرا من العلمانيين وجدوا فيها بيئة مناسبة لتنمية إيمانهم، وانتمائهم الكنسي، ورسالتهم المسيحية، كما شكلت هذه الحركات رافدا مهما للدعوات الكهنوتية والرهبانية والحياة المكرسة. وهذا ما يدعو إلى مواصلة التفكير والعمل معا كي تساهم هذه التجمعات في حياة أبرشياتنا ورسالتها مساهمة أصيلة وفعالة، إنطلاقا من خصوصية كل حركة وموهبتها من جهة، وانطلاقا من البنيان المشترك، الذي تُدعى إلى المساهمة فيه كلّ حركة رسولية وجماعة كنسية.

    العلمانيون في الكنيسة
    تستند رسالة العلمانيين الى الرؤية اللاهوتية لمكانة العلمانيين في الكنيسة، التي بلورها المجمع الفاتيكاني الثاني ووثائق كنسية لاحقة:
    - هوية العلمانيين: ان العلمانيين هم "مجموع المسيحيين الذين ليسوا أعضاء في الدرجات المقدسة، ولا في الحالة الرهبانية التي أقرتها الكنيسة، أي المسيحيين الذين إذ انضموا الى جسد المسيح بالمعمودية، واندمجوا في شعب الله، وجُعلوا شركاء، على طريقتهم، في وظيفة المسيح الكهنوتية والنبوية والملوكية، يمارسون، كلٌّ بما عليه، في الكنيسة وفي العالم، الرسالة التي هي رسالة الشعب المسيحي بأكمله"(143) .
    - العلماني في سر الكنيسة كشركة: ان الكنيسة سر شركة يجمع مختلف فئات شعب الله في الوحدة والتنوع من حيث الخدمات والأعمال والمواهب (راجع 1قورنتس 12: 4-11)، وفي الكرامة الواحدة وفي الرسالة الواحدة. "في صميم سر الكنيسة فقط، بصفته سر الشركة، تنكشف "هوية" المؤمنين العلمانيين وكرامتهم الأصلية، وانطلاقا من هذه الكرامة وحدها، يمكننا تحديد دعوتهم ورسالتهم في حياة الكنيسة والعالم"(144) .
    - الطابع العلماني: ان إحدى جوانب أصالة هويتهم ومشاركتهم في حياة الكنيسة هو "الطابع العلماني… الخاص بهم والمميز لهم"(145) . ويعرّف المجمع الفاتيكاني الثاني هذا الطابع العلماني بقوله: "انهم (أي المؤمنين العلمانيين) يعيشون في وسط العالم، أي أنهم مرتبطون بمختلف موجبات العالم وأعماله كلها، وبالأحوال المألوفة في الحياة العيلية والمجتمعية التي كأن وجودهم قد نُسج منها"(146) . ويضيف قداسة البابا يوحنا بولس الثاني قائلا: "انهم يعيشون في العالم حياة طبيعية ويدرسون ويشتغلون، يقيمون علاقات وديّة واجتماعية ومهنية وثقافية". فالله "لا يدعوهم الى التخلي عن الموقع الذي يشغلونه في العالم… بل ان العماد يحدد لهم الدعوة انطلاقا من وضعهم بالذات في العالم… ومن خلال وضعهم في وسط العالم، يظهر الله قصده، ويعلن لهم دعوتهم الخاصة، القائمة على طلب ملكوت الله، من خلال تسيير الشؤون الزمنية في الاتجاه الذي يريده الله"(147) .
    - مشاركة: وعليه فإن دور العلمانيين في الكنيسة ليس مِنّة أو اكتساباً، بل نابع من سر الكنيسة بالذات. فهو لا ينجم "عن تنازل ما من قِبل السلطة، بل عن العماد الذي يدعو المؤمنين العلمانيين، بصفته سرا، الى مشاركة فعالة في شركة الكنيسة وفي رسالتها"(148) . ان الوعي بالانتماء الى سر شركة الكنيسة واختباره عن طريق أسرار الدخول في الحياة المسيحية (العماد، والتثبيت، والإفخارستيا)، يؤدي الى اضطلاع العلمانيين بمسؤولياتهم في حياة الجماعة المسيحية، فيكون كلٌّ منهم مشاركا فعالا وعاملا مسؤولا في حقل الرب، تحت إشراف سلطة الكنيسة ورعايتها.

    العمل الفردي والجماعي
    يقوم العلمانيون برسالتهم بشكل فردي أو جماعي.
    - العمل الفردي: "ان الرسالة الواجبة على كل مسيحي منفردا، والتي تنبثق دائما، كما من نبعها الفيّاض، من حياة مسيحية حقة (يوحنا 4: 14)، هي لكل عمل رسولي يقوم به العلمانيون مبدأه وشرطه، ولو كان جماعيا، وما من شيء يقوم مقامها. ان هذه الرسالة الفردية مثمرة على الدوام في كل مكان… فجميع العلمانيين أيّا كانت أوضاعهم الحياتية مدعوون لها، وهي واجب عليهم حتى ولو لم يُتحْ لهم أن يتعاونوا في حركات رسولية. وللعلمانيين، في هذا الحقل، طرق عديدة للاشتراك في بنيان الكنيسة وتقديس العالم وإحيائه في المسيح"، منها، كما يؤكد المجمع، "الشهادة بحياة علمانية سويّة يوحيها الإيمان والرجاء والمحبة" ومن خلال القول، ومن خلال استلهام " المبادئ السامية التي تنكشف لهم على ضوء الإيمان" "في حياتهم العيلية والمهنية والثقافية والمجتمعية"، ومن خلال المحبة والحياة المسيحية الحقيقية في مجالات الحياة المختلفة(149) ، مما يؤدي الى "الإشعاع الدائم" المرتبط "بالانسجام المستمر بين الحياة الشخصية والإيمان"(150) . إن عدم الانضمام إلى حركة ما أو جماعة كنسية لا يحول دون أن يتخذ العلماني دوره في الرعية أو في الأبرشية.
    - العمل الجماعي: ان العمل الجماعي هو "تجسيد لطبيعة الشخص الاجتماعية، وتلبية لحاجة في نفسه، تدعوه الى فعالية أكثر شمولا ونفاذا". أما "الحافز الأعمق، ذو الطابع اللاهوتي، الذي يتجاوز ما ذكرنا من حوافز، ويبرر تجمع المؤمنين العلمانيين، ويفرضه" فهو "حافز كنائسي" (أي مؤسس على طبيعة الكنيسة)، على حد ما صرّح به المجمع الفاتيكاني الثاني، الذي رأى في الرسالة الجماعية علامة الشركة الكنسية ووحدة الكنيسة في المسيح"(151) . ومن هذا المنطلق، يعترف القانون الكنسي بحق "المؤمنين العلمانيين في إنشاء جمعيات كنسية"(152) .

    توجيهات رعوية
    إن رسالة العلمانيين، ومن ضمنها الحركات الرسولية والجماعات الكنسية، تتطلب عملا رعويا متكاملا يدمجها في حياة الأبرشية ورسالتها وتطلعاتها ونشاطاتها، وهذا ما يستدعي التوجهات التالية:
    - تفعيل وتشجيع رسالة العلمانيين في أبرشياتنا: لقد قامت كنائسنا بخطوات ملحوظة في مجال رسالة العلمانيين، ولكن لا يزال أمامها الكثير من الجهد والعمل، كي يأخذ هذا الجانب من سر الكنيسة مكانته في حياة أبرشياتنا. وهذا يستدعي توعية الاكليروس والعلمانيين المؤمنين بالمسيح على حدّ سواء حول هوية العلماني ورسالته في الكنيسة، وما تنطوي عليه هذه التوعية من تغيير في العقلية في كلا الفئتين ومن تفعيل وتشجيع وتعزيز وتثقيف، بعيدا عن الانتقائية والمزاجية والارتجالية. وهذا ما يتطلب حوارا دائما وتواصلا مستمرا بين العلمانيين والرعاة، مع ما يقتضيه ذلك من استرشاد كلا الطرفين بالروح الكنسية الحقيقية (153) . ليست الكنيسة "أنتم" و"نحن" و"هم"، بل كلّنا معا، كلٌّ بحسب موقعه ودعوته.
    - الأساس الروحي: ما لم تتأسس رسالة العلمانيين، بما في ذلك الحركات الرسولية والجماعات الكنسية، على روحانية إنجيلية وكنسية حقيقية، فإنها تفقد معناها ومبرر وجودها(154) . تتغذى هذه الروحانية بكلمة الله، والأسرار المقدسة، والصلاة، والمثل الإنجيلية، والتعامل الأخوي، ومواجهة الصعوبات بروح المسيح وإنجيله، والتفاعل الحيوي مع الكنيسة ورعاتها. " ومن ثم فقيمتها الرسولية مرتبطة بدرجة تماشيها مع أهداف الكنيسة، ومع الصفة المسيحية في شهادة أعضائها، ومع الروح الإنجيلية في كلٍ منهم وفي الجماعة كلها جمعاء"(155) . إن العناية الروحية بالعلمانيين لا تتوجه لهم كجماعة فحسب، بل أيضا كأفراد (عن طريق المرافقة الروحية مثلا)، لأن الاعتناء بالجماعة، يجب ألا ينسينا الشخص بما فيه من فرادة وخصوصية وحاجات.
    - الانفتاح المتبادل: إن مشاركة جميع فئات الكنيسة في الرسالة الواحدة تفضي الانفتاح المتبادل والمتعدد الجوانب: انفتاح متبادل بين العلمانيين والرعاة، بين الحركات الرسولية والجماعات الكنسية من جهة والأبرشيات والرعاة من جهة أخرى، وانفتاح كل فئة كنسية على جميع أعضائها، وانفتاح الحركات الرسولية والجماعات الكنسية بعضها على بعض. وكل ذلك من منطلق الشركة الكنسية، في الوحدة والتنوع، ومن منطلق أصالة كل فئة وموهبتها، فيساهم الجميع في البنيان المشترك لجسد المسيح السري الواحد. إن العزلة والانغلاق والتقوقع والانفرادية تشوّه سر الكنيسة وتضر بحياتها ورسالتها، بينما يؤدي الانفتاح والحوار والتواصل والتفاعل إلى الشركة والوحدة، مما يساعد على تلمُّس حاجات الأبرشية وتطلعاتها ونداءاتها والمشاركة في مشاريعها. وهذا ما يجعل كل واحد وكل فئة خليّة حيّة في الرعية والأبرشية. وهذا كله يضعنا جميعا في طريق ملوكي، ولكن هذا الطريق هو الطريق الضيق الذي لا يخلو من صعوبات وعقبات وتوترات يمكن دائما تجاوزها من منطلق الروحانية الإنجيلية والكنسية.
    - التنسيق والتعاون: ان وجود عدة حركات وجماعات في الرعية الواحدة أو في الأبرشيات المختلفة هو بحد ذاته علامة حيوية وغنى، شريطة أن يتم التنسيق والتعاون من أجل العمل المشترك، بعيدا عن الأفكار المسبقة والخصومات والانقسامات، وأن يتخذ هذا التنسيق والتعاون طابعا ملموسا وعمليا، كأن تجتمع جميع فعاليات الرعية الواحدة من وقت لآخر للتنسيق في ما بينها واتخاذ المبادرات المشتركة لخير الرعية بأكملها. أما على المستوى الأبرشي، فمن الضروري إنشاء مجلس أعلى للحركات الرسولية والجماعات الكنسية يتألف من مسئولي هذه الحركات والجماعات ويكون تعبيرا حيا للشركة الكنسية في ما بينها، وبينها وبين الأبرشية، للتدارس في إمكانيات التعاون والتنسيق والعمل المشترك. وحبذا لو نظمت مؤتمرات دورية لجميع هذه الحركات والجماعات تساعد على التواصل والتعارف والتعاون.
    - الوحدة والتنوع: ان المواهب والأعمال والخدمات على أنواع، أما الروح فواحد (راجع 1قورنتس 12: 1-29). ويعلمنا القديس بولس (راجع 1 قورنتوس 12: 7؛ 14: 12؛ 14: 26) أن المواهب إنما أعطيت من أجل الخير العام والبنيان المشترك وتخضع لمقاييس لاهوتية وكنسية محددة(156) . وهذا ينطبق على الأفراد وعلى الحركات والجماعات المختلفة. من المعروف ان كل حركة أو جماعة لها طابعها وموهبتها وروحانيتها وطريقة عملها الخاصة بها. وهذا ما يتطلب (كالحركة الكشفية على سبيل المثال) بلورة هويتها وأهدافها وأولوياتها وطريقة عملها لخير أعضائها أولا، ولخير جماعة المؤمنين برمتها في أبرشياتنا. وتقتضي الوحدة ان لا تعمل مختلف الحركات والجماعات بروح التنافس والمفاضلة، بل بروح التكامل والوحدة. فالوسائل مختلفة ولكن الرسالة واحدة. فمن الواجب ان تعرف كل واحدة منها موهبتها، وان تعترف، في الوقت عينه، بموهبة غيرها وتقدرها، لأن الروح واحد وهو الذي يوزع مختلف المواهب. ان التنافس مؤشر لعدم نضج إنساني وكنسي ورسولي، بينما ينبع التكامل والاحترام المتبادل من حس كنسي حقيقي ومن روحانية إنجيلية أصيلة(157) .
    - الطابع المحلي: من المعروف ان الكثير من الحركات والجماعات نشأت في الخارج ولها نظامها الخاص على المستوى العالمي. ولكن ذلك لا يجعلها غريبة عن الكنيسة المحلية بل دافعا للإندماج في نسيج الأبرشية والمجتمع المحلي بما فيه من ثقافة وتراث وعادات وتقاليد مميزة، فتساهم في حركة الكنيسة المحلية ونموها وتأخذ دورها في المخططات الرعوية للرعية والأبرشية. وهذا ما يتطلب تشجيع الحركات الرسولية والجماعات الكنسية التي تنشأ هنا في كنائسنا من منطلق حاجات المؤمنين وبيئتهم.
    - التنشئة المسيحية: يقع على عاتق هذه الحركات والجماعات ان تهتم جديا بتنشئة أفرادها التنشئة الإنسانية والمسيحية والكنسية اللازمة، من منطلق هويتها ورسالتها. "من المهم… تنشيط الجمعيات والحركات والنوادي التي ينضوي إليها المؤمنون… انها تُتِمُّ غايتها جميعا، على أحسن وجه، وتخدم الكنيسة أجل خدمة، إذا فسحت في تنظيمها الداخلي وفي طريقة عملها، مجالا واسعا لتثقيف أعضائها تثقيفا دينيا جديا. فعلى كل جمعية من جمعيات المؤمنين، في الكنيسة، ان تكون بهذه الطريقة… معلِّمة للإيمان" (158).وهذا ما يتحقق عن طريق وضع برنامج سنوي تسير عليه كل حركة أو جماعة بغية الوصول إلى هذه الغاية إنطلاقا من خصوصيتها وروحانيتها ضمن مسيرة الكنيسة، وهذا ما يدعو الكنيسة إلى الاهتمام الدائم بالتثقيف الديني والروحي للعلمانيين عامة بالوسائل المناسبة من أجل شهادة ورسالة أكثر عمقا.
    - الاهتمام بالشباب: تشكل الشبيبة قوة حياة وتعقد عليها الآمال المستقبلية، لأنها تتمتع بطاقات تمكنها، إذا ما استمرت في التوجيه الصحيح، ان تشكل قوة دفع الى الأمام. "ان مستقبل الكنيسة والعالم هو بين الأجيال الطالعة المولودين في هذا القرن وسيبلغون النضج في غضون القرن الأول من الألف الجديد"(159) . وهذا ما يتطلب منح الثقة لحيوية الشباب وشراكتهم في كل مشروع كنسي، لأن مستقبل الكنيسة هو بيد الأجيال القادمة. "فإذا عرفوا ان يسلكوا الطريق الذي يدلهم عليه (المسيح)، يكون لهم فرح المساهمة بحضوره في الجيل الآتي وسائر الأجيال حتى انقضاء الدهر"(160) . "فالجماعات المسيحية مدعوة بأن تفسح لهم مجالا أوسع للاندماج في كل نشاطها، فيغدون بذلك فاعلي البشارة الجديدة وزارعي الكلمة في نفوس غيرهم من الشباب، مجددين هويتهم الخاصة للتجدد الكنسي. وهم كذلك مدعوون ليكونوا مشاركين مشاركة كاملة في بناء المجتمع. ولذا ينبغي ان يتلقوا تنشئة فكرية وروحية متينة، تروي عطشهم الى المطلق والحقيقة وحيثما يسلكون يجب ان يلقوا ما يحتاجون إليه من مواكبة روحية"(161) . وهذا ما يدعو إلى بلورة روحانية الحركات التي تُعنى مباشرة بالشباب وكذلك وضع البرامج العملية لخدمة الشبيبات كي تتمكن من إيجاد طريقها في عالم معقد ومتصارع ومتعدد.
    - الاهتمام بمختلف الفئات: إن تفعيل رسالة العلمانيين يجب أن يطال جميع فئات المؤمنين، ومنهم على سبيل المثال، العائلات الشابة، المدعوة إلى أن تلعب دورها المهم والمميز في حياة الجماعة المسيحية وكذلك الرجال البالغون، الذين يرى البعض أنهم عنصر مهمل في رعايانا. فإن كان مستقبل الكنيسة بين أيدي الأجيال الصاعدة، فإن حاضرها بين أيدي الرجال البالغين المدعوين إلى أن يكونوا المثال الأول للشباب في الإيمان والتقوى وخدمة الكنيسة. وفي تعداد الفئات المختلفة في الكنيسة، لا بدّ من ذكر المرأة، المدعوة إلى أن تكتشف خصوصيتها وفرادتها وعطاءها المميز في جماعة المؤمنين بالتعاون مع الفئات الأخرى. من الملاحظ أن العنصر النسائي لعب دورا مهما في مسيرة السينودس وهذا ما يدعو كنائسنا إلى التفكير مليّا بهذه العلامة كي تبلور معانيها وأبعادها في سياق مشروع أبرشياتنا الرعوي. وقد تترجم هذه الأدوار لمختلف الفئات بخدم كنسية قد تكون ضرورية لنمو رسالة العلمانيين في الكنيسة (خدمة القارئ، السكرستاني، خادم الهيكل…).

     

    خــاتمــة

    إن الخبرة التي عاشتها كنائسنا في المسيرة السينودية ومشاركة العلمانيين فيها مشاركة حقيقية تشكّل علامة أمل للمستقبل. إن تعميق هذه المشاركة الكنسية لهي من المجالات الرعوية الواعدة التي تستدعي التزام الكنيسة واهتمامها.


    قرارات

     1 - تفعيل رسالة العلمانيين في الكنيسة والعمل على توعية جميع فئات الكنيسة (بمن فيهم الكهنة
           والرهبان والراهبات) على هوية العلمانيين ورسالتهم في الكنيسة.
    2 - تطوير عمل رعوي للمراهقين والشباب انطلاقا من مشاكلهم وحاجاتهم الخاصة.
    3.- تعزيز مكانة المرأة في الكنيسة بحيث تأخذ دورها الفعّال في حياة الرعية والأبرشية.
    4.- دعم وتطوير الحركات الرسولية الكنسية وانفتاح هذه الحركات على حياة الرعية
         والأبرشية انطلاقا من مواهبها الخاصة.
    ------------------------------
    139  نجد رؤية لاهوتية متكاملة لهوية العلمانيين ورسالتهم في الوثيقة المجمعية دستور عقائدي في
            الكنيسة،الفصل الرابع الذي يحمل عنوان العلمانيون، وعاد المجمع بالتفصيل إلى موضوع
            العلمانيين في وثيقة منفصلة تحمل اسم رسالة العلمانيين. وبعد المجمع المسكوني، عادت
            الكنيسة مراراً وتكراراً إلى هذا الموضوع، خاصة في الإرشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني
            بعنوان العلمانيون المؤمنون بالمسيح. أما في كنائسنا المحلية فنجد رؤية، ولو جزئية، لهوية
            العلمانيين ورسالتهم في  الكنيسة الرسالة الراعوية الرابعة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك التي
            تحمل عنوان سر الكنيسة، خاصة الرقم 42 و 59.
    140 لسنا هنا بصدد تقديم تعريف شامل وجامع لهذه الحركات والجماعات لتنوعها الواسع وأشكالها
           المختلفة (ومنها ما يضم، بالإضافة إلى العدد الكبير من العلمانيين، أعضاء من الإكليروس
           والرهبنات).  ليس المخطط الرعوي دراسة أكاديمية أو لاهوتية أو قانونية، بل أساساً محاولة
           لرسم خطوط رعوية  تساعد كنائسنا على النمو في حياتها ورسالتها.
    141   راجع العلمانيون المؤمنون بالمسيح ، رقم 28.
    142  المرجع نفسه، رقم 29، وبشكل عام رقم 8-17.
    143  دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 31.
    144  العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم 8.
    145  دستور عقائدي في الكنيسة، رقم 31.
    146  المرجع نفسه، رقم 31.
    147  العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم 15.
    148  المرجع نفسه، رقم 29.
    149  قرار في رسالة العلمانيين، رقم 16.
    150  العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم 28.
    151  المرجع نفسه، رقم 29، راجع أيضاً قرار مجمعي في رسالة العلمانيين، رقم 18.
    152  المرجع نفسه، رقم 29. وفي هذا الصدد يقول الحق القانوني الغربي:" للمؤمنين الحق
            في إنشاء الجمعيات الخيرية أو التقوية، أو تلك التي ترمي إلى نشر الدعوة المسيحية في
            العالم. يحق لهم كذلك أن يعقدوا الاجتماعات، ليواصلوا العمل معاً على تحقيق هذه الأهداف"
          (البند 215). راجع أيضاً مجموعة قوانين الكنائس الشرقية، القانون 402. بعد الاستشهاد بهذا
            النص القانوني، يضيف يوحنا بولس الثاني قائلاً:" والمقصود هنا هو الحرية المعترف بها،
            والمكفولة من السلطة الكنيسة. وانطلاقاً من ذلك، يصبح حق المؤمنين العلمانيين في التجمع
            مرتبطاً أساساً بحياة الشركة، وبرسالة الكنيسة ذاتها. (العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم 29).
    153   راجع سر الكنيسة، رقم 59.
    154  لقد نوه البابا بولس السادس إلى الإمكانات الكامنة في هذه الحركات والتجمعات وأيضاً المخاطر
         التي يمكن أن تتعرض لها في دعوة رسولية من أجل إعلان الإنجيل، رقم 58، راجع أيضاً
           العلمانيون المؤمنون بالمسيح، رقم 30.  
    155  قرار في رسالة العلمانيين، رق�