الرسالة الراعوية للبطريرك فؤاد، الوحدة على التنوع


"مُجتهِدُون في المُحَافظةِ عَلى وَحدَةِ الرُّوحِ برِبَاطِ السَّلامِ!" (أفسس 4: 3)
الوَحدَةُ عَلَى التنوُّع

الرسالة الراعوية الأولى
لصاحب الغبطة البطريرك فؤاد طوال
بمناسبة زيارة قداسة البابا بندكتس السادس عشر
إلى الأرض المقدسة من 8-15 أيار 2009



أيها الأبناء المباركون والإخوة المؤمنون

تحية في المسيح والعذراء!

فيما نحييكم من موقع البطريركية اللاتينية في المدينة المقدسة تحية الحب والإيمان في الرب يسوع المسيح الذي اختارنا ودعانا إلى كل أمر عظيم، وفي أمه العذراء المجيدة المباركة، التي رعتنا على مدى الأعوام بحبها وحنانها المألوف، فإنه ليطيب لنا أن نخاطبكم من هذا المنبر الجليل، منبر البطريركية اللاتينية، التي جعلنا الرب قيما عليها، وأن نتحدث إليكم في هذه الرسالة الراعوية الأولى، في أمر كان على قلب المسيح وعلى قلوبنا من بعد المسيح غاليا؛ ألا وهو وحدة الكنيسة التي صلى من أجلها المسيح: "ليكونوا بأجمعهم واحدا" (يوحنا 17: 21).

1) الوحدة المقصودة

هذه الوحدة المقصودة بصلاة يسوع، أصلها مستمد من وحدانية الله بذاته، وإن تعددت أقانيمه، ومن وحدانية الكون في تنوعه العجيب، ومن وحدة الرجل والمرأة، ومن وصية الله لآدم وحواء: "انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها" (تكوين 1: 28). ومن هنا نرى في العمل الإلهي، كيف تنسجم الكثرة مع الوحدة أو الوحدة مع التنوع، انسجاما بديعا. ولكي يحقق الإنسان مقصد الله من هذه الوحدة، يجب أن يقيم على الوحدة مع الله، وأن يعترف بتبعيته لله بأمانة وانتظام. وهذه الوحدة الراسخة هي ما نصلي من أجله كل يوم، وما نحبكم أن تكونوا عليه في كل حين، وما نسعى إليه بكل ما أوتينا من قوّة. وأنتم في مواقعكم المختلفة من الأردن وفلسطين وإسرائيل وقبرص، تشكلون أبرشيتنا الواسعة، ورعيتنا الغالية التي إليها في كل حين كل حبنا واشتياقنا.

- نريد الوحدة على مثال الأولين!

إن ما أراده المسيح للكنيسة التي خرجت من يديه، على ما يحب ويشتهي، والتي أقامها على أغلى ما عنده، وجعلها واحدة بروحها، واحدة بإيمانها، هو ما نريده اليوم لكنيستنا، وما نريده لكم، على اختلاف مواقعكم ومنابتكم، لا فرق عندنا بين أناس وأناس إلا بما ترعون من هذه الوحدة المتينة القائمة على كثرة التنوع واختلاف المنابت والأصول ووحدة العقيدة والإيمان.

هكذا كان المسيحيون الأولون. "وكان جماعة الذين آمنوا قلبا واحدا ونفسا واحدة" (أعمال الرسل 4: 32). لا يفرق بينهم لا بعد ولا قرب، ولا يسر ولا عسر، ولا معرفة ولا جهل، ولا جاه ولا مال: "وكانوا مواظبين على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز والصلوات" (أعمال الرسل 2: 42).

2) مقومات الوحدة

تلك هي مقومات الوحدة التي من أجلها صلى يسوع: أن يكونوا قلبا واحدا ونفسا واحدة. وما من سبيل إلى هذه الوحدة المنشودة بغيرها. والمطلوب أن يكون المؤمنون واحدا وإن تنوعت منابتهم واختلفت مناصبهم وتباينت أشكال الحياة المسيحية عندهم: "لأنكم جميعا واحد في المسيح" (غلاطية 3: 8).

وإذا قامت الوحدة على حب المسيح فلا يفسدها التنوع، ولا تعطلها كثرة التنظيمات، ولا كثرة أشكال الحياة المسيحية. لذلك "أناشدكم أن تسيروا سيرة تليق بالدعوة التي دعيتم إليها، مجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام" (أفسس 4: 3).

ومن هنا نرى أن هذه الوحدة تقوم قبل كل شيء في أن الكنيسة متأصلة كعمل الإله الواحد (1 كورنثوس 8: 6)، وبواسطة وحي واحد، في مسيح واحد (روما 14: 7) وذلك بعمل الروح الواحد، الذي هو روح الآب وروح يسوع المسيح (أفسس 2: 18). وتظهر وحدة الكنيسة في وحدة الإنجيل، ووحدة العماد، ووحدة الخدمة المُوكَلة إلى بطرس وإلى الإثني عشر، وعند بولس في صورة الجسد التي تنبئنا عن هذه الوحدة الجوهرية والواقعية. والكنيسة هي جسد المسيح الذي يكونه العماد، وتجسده الإفخارستيا (1 كورنثوس 10: 17).

وحدة الكنيسة تعني أيضا فرديتها. ووحدة الكنيسة وفرديتها لا تتعارضان مع التعددية. فالوحدة هي وحدة العقيدة. والتعددية هي كثرة التنظيمات الكنسية، وأشكال الحياة المسيحية، فإنها وإن كثرت وتباينت، واحدة في أهدافها.

- الوحدة تصنعها المحبة!

لكن الوحدة لا تتحقق إلا في المحبة، وفي احترام الآخر، وفي العمل المشترك لمهمات الحياة العامة، وفي الوعي للمسؤولية الحقة تجاه العالم، حسب أنماط الحق الطبيعي العام.

أمّا قوام هذه الوحدة الخارجية فهي وحدة الإيمان ووحدة الأسرار، ووحدة العبادة، ووحدة الإدارة: كل ذلك ينتج عن مبدأ الوحدة الداخلي، الذي هو عمل المسيح وروحه التأسيسي. هذه العناصر الخارجية هي أيضا التعبير التاريخي المنظور لتصميم الخلاص الشامل، الذي يجب أن يظهر في الكنيسة، وبواسطة الكنيسة.

لذلك، فإن انقسام المسيحيين اليوم يجب أن نعتبره "فوضى الخطيئة والأهواء". وفوضى الخطيئة والأهواء ليست من التعددية في شيء. ولا يجوز أن نترك وحدة الكنيسة إلى آخر الأزمنة، لأن وحدة الكنيسة هي العلامة على نعمة الله. ونعمة الله لا يحدها زمان ولا مكان. ويجب أن ننمي هذه الوحدة التي تمزقهـا الانشـقاقات والبدع (1 كورنثوس 1: 10؛ 11: 18-19) لأن أساس الوحدة هو الإيمان الواحد في الرب الواحد (أفسس 4: 5، 13).

هذه الوحـدة على التنـوع هي من نـوع وحـدة الجسـد: فلا تعـدد الوظائف والأدوار يلغي وحدة الجسد؛ ولا وحدة الجسد تلغي تعدد الوظائف والأدوار. أعضاء كثيرة وجسد واحد. إنما تنوع الوظائف والأدوار يزيد الجسـد قوة ووحدة ورسوخاً (1 كورنثوس 12: 12-21).

لذلك أحببنا لكم "الوحدة على التنوع" حديثاً محبباً في أولى رسائلنا الراعوية إليكم. لكن الحديث في الوحدة عند التنوع لا يكون سهلاً؛ ولا الحفاظ على التنوع عند الوحدة يكون سهلاً، خصوصا والناس مختلفين رأياً ورؤيةً وطباعاً. لكن حب المسيح لا يعرف المستحيل!

3) "قلبي مستعد يا الله !"

ولا يخفى عليكم، أيها الأبناء المباركون، والإخوة المؤمنون، ما نداعب في قرارة النفس والضمير حول الوحدة المسيحية، من متاعب ومصاعب وهموم، وما نضمر في ثنايا القلب من تهيىءٍ واستعداد لخدمة الرب وخدمتكم.

كنا عند سيامتنا الكهنوتية، قد اتخذنا شـعارًا "قلبي مستعد يا الله". وعند تنصيبنا بطريركاً على المدينة المقدسة، اتخذنا كذلك شعارا: "قلبي مستعد يا الله". إنه كما ترون شعار واحد استوحيناه من كتاب المزامير (56: 8).

الروح، يا أبنائي وأحبائي، جاهز لكل تضحية وعطاء. والخاطر زاخر بالتطلعات الحسان إلى وحدة المؤمنين في أبرشيتنا، وإن قامت بينهم على طول الزمان مسافات وأبعاد.

لكن الحب الذي يربط بيننا، ويربطنا بالمسيح، لا يعرف المسافات، ولا تقيّده الأبعاد، ولا تعطّله كثرة المذاهب، ولا اختلاف المنابت، ولا تنوّع الأوطان. لكن الأمر لا يتم إلا بالصّلاة: صلاتنا من أجلكم، وصلاتكم من أجلنا. ففي الصّلاة تذوب الهموم. وفي الصّلاة قوُة ومتعة وصمود. وأنتم هنا حصّتنا ومجدنا وميراثنا.

4) كنيسة لها تاريخ

في هذا الحديث "الوحدة على التنوع" الذي أردناه موضوعاً لرسالتنا الراعوية الأولى، نستعرض تاريخ كنيسة المدينة المقدسة المقدسة، أم الكنائس قاطبة، وكنيسة الرسل التي خرجت من يد المسيح، واحدة مقدسة قديسة طاهرة منزهة. إنها كنيسة مجيدة ولها تاريخ مجيد. ونحن هنا نستذكر تاريخها الطويل إيجازا. ونستعرض ما مرت به من صعوبات وأخطار، ما كانت لتجتازها ظافرة مظفرة، لولا رعاية الرب وهمّة المؤمنين، وما بذلوا في سبيلها من ذواتهم بحب وسخاء، ومن أموالهم بغير حساب.

- كنيسة القدس

إنها الرسالة الأولى. إنها منطلق الدعوات وساحة النبوءات. إنها كنيسة القدس. إنها أم الكنائس، ومهبط الوحي والتنزيل، ومنبت الشهادة للإنجيل. وما من كنيسة تفوقها كرامةً وشرفاً، لأنها من وضع المسيح دون وسيط. وهي تضم، كما هو معروف، كلاّ من فلسطين واسرائيل والأردن وجزيرة قبرص، وخاب أمل من ينوي تقسيمها، ولقد تكرّم الروح القدس، وذكر كل أقسام أبرشيتنا في الكتاب المقدّس. لذا، يسهل علينا أن ندرك من كلمة الله المكتوبة مشيئته الربانية في ما يخص وحدة هذه الديار التي قدّسها الله عن طريق الأنبياء أوّلا، ثمّ عن طريق تجسد ابن الله الوحيد، والفداء المكلل بالقيامة المجيدة والصعود المظفر وحلول الروح القدس على من كانوا في الدار يوم العنصرة. وهم الرسل الأبرار، يطوقون العذراء، ويواظبون على الصلاة معها.

- كنيستنا في خاطر الله

نقول أن كنيستنا أو أبرشيتنا كانت في خاطر الله. لذلك جاء الكتاب المقدس على ذكرها. نشير هنا باختصار شديد إلى ذكر بعض مدن هذه الديار المقدسة التي وردت في العهد الجديد منذ "تمّ الزمان": ناصرة الجليل، مكان البشارة بالرب. وبيت لحم إفراتا التي أنجبت المخلّص. وأورشليم "مدينة الملك العظيم" (متّى 5: 35)، حيث "نقضوا هيكل يسوع" (أي جسده) ليعيد بناءه في ثلاثة أيّام! (يوحنا 2: 19) وبرّية يهوذا، وبحر الجليل، وجبَلي التطويبات والتجلّي وبئر يعقوب في السامرة. وغيرها من المواقع الباقية إلى أيّامنا شاهدة للمسيح في حياتة وأقواله وللتدبير الخلاصي. لقد أجاب يسوع الفريسيين، الذين انتهروا التلاميذ والجموع المرحّبة به قائلاً: "لو سكت هؤلاء لهتفت الحجارة!" (لوقا 19: 40) فكل حجر من حجارة هذه البلاد يحمل تاريخاً، ويسرد حكاية، ويروي حدثاً جليلاً.

ويطيب لنا ان نستعرض هنا النصوص المنزلة التالية من العهد الجديد التي تذكر بعض مناطق أبرشيتنا التي باركها الرب، وجعلها مهداً لبشرى الخلاص. وأتم تقديسها في السيّد المسيح الذي أنعم علينا نحن أبناء هذه الأبرشية أن "نرى بنوره النور" (المزمور 35، 10)، خصوصا أبناء هذه الأرض المقدسة! ولكن من جهة أخرى لن ننسى ان كل مسيحي، بحبه وإيمانه، "وُلد في المدينة المقدّسة"، كما قال صاحب المزامير: "كل انسان وُلد فيها (أي في أورشليم)، والعليّ هو الذي ثبّتها. الرب يدوّن في سجلّ الشعوب: إن فلانا وُلد فيها" (87: 5-6). هذه بعض النصوص التي تذكر بعض أجزاء الأبرشية:

- أوصى الرب يسوع رسله وتلاميذه وتنبّأ لهم: "الروح القدس ينزل عليكم فتنالون قدرة وتكونون لي شهوداً في أورشليم وكلّ اليهودية والسامرة حتّى أقاصي الأرض" (أعمال الرسل 1: 8).

- وكان يسوع قد اعتمد على يد يوحنا ابن زكريا في نهر الأردن. وفي وقت لاحق "طاف يسوع في المدن العشر" (مرقس 5: 20) ومنها فيلادلفيا أي عمّان وجرش وبيسان، مقدّسا كل هذه الديار!

- نقرأ في أعمال الرسل: "رأى جميع سكّان اللدّ وسهل الشّارون اينياس الذي شفاه بطرس الرسول، فاهتدوا إلى الرب... وكانت في يافا تلميذة اسمها طابيثة... وكان في قيصرية رجُل اسمه قرنيليوس، قائد مائة روماني..." (9: 35-36، ثم 10: 1 وتابع).

- أمّا جزيرة قبرص، وهي أيضا قسم من بطريركيتنا اللاتينية، فقد روى سفر أعمال الرسل الكثير عن خدمة الرسل فيها، ولا سيما بولس وبرنابا: "لمّا كانا (أي بولس وبرنابا) موفدين من الروح القدس نزلا إلى سلوقية وأبحرا منها إلى قبرص. ولمّا بلغا سلامينا أخذا يبشّران... واجتازا الجزيرة كلّها حتّى بافوس..." (13: 4-6).

انها بلاد مختلفة، ولغات مختلفة. ولكنّ حبّ المسيح يجمعنا، وهو الذي "فدانا من كل قبيلة ولسان وشعب وأمّة" (رؤيا 5 :9)، "إخوة لا غرباء، أقارب لا أباعد، وقد صرنا بدم الرب الفادي أقرباء!" (أفسس 2: 13).

- العهد الرسوليّ الذهبيّ

كتب القديس لوقا ما يلي: "وكانت الكنيسة تنعم بالسلام في جميع اليهودية والجليل والسامرة، وكانت تنشأ وتسير على مخافة الرب، وتنمو بتأييد الروح القدس" (أعمال الرسل 9: 31). وكان الكتاب ذاته قد نقل إلينا صورة رائعة عن "الحياة المشتركة" التي عاشتها الجماعة المسيحية الاولى، وقال: "كان جميع الذين آمنوا يواظبون على تعليم الرسل والمشاركة وكسر الخبز (أي الافخارستيا) والصلوات... وكانوا جماعة واحدة... وكانوا قلباً واحداً ونفساً واحدة، يجعلون كل شيء بينهم مشتركا... ولم يكن بينهم محتاج" (أعمال الرسل 2: 42 وتابع، ثم 4: 22 وتابع). وهذا ما نصبو اليه في كنيستنا وأبرشيتنا، ونعمل من أجله، رغم الصعوبات التي تحيط بنا.

5) وضع الكنيسة الحاليّ

حافظت جماعاتنا المسيحية على "وديعة الإيمان" عبر القرون. ونستطيع أن نؤكّد أن الإيمان والكيان المسيحيين ما انقطعا فيها منذ السيّد المسيح إلى أيامنا الحاضرة، رغم ما شهدته الكنيسة والبلاد من اضطرابات واضطهادات. وساهم كل ذوي "الإرادة الصالحة" من مسيحيين وغير مسيحيين في بناء حضارة هذه المنطقة التي هي قِبلة أنظار العالم من النواحي الدينية والثقافية والحضارية والتاريخية والانسانية بشكل عام. ولكنّ الدهر كان قاسيا على قطيع المسيح. ولا نستطيع أن نسبر أغوار الحكمة الإلهية، من وراء كل تلك المصاعب والتجارب، الاّ في نور الصليب، ووعد السيد المسيح! "من أراد أن يتبعني فليحمل صليبه ويتبعني" (متى 16: 24).

شهدت منطقتنا مؤخّراً مأساة كبيرة في قطاع غزّة، تركت نحو الف وخمسمائة قتيل وآلاف الجرحى. ودُمّرت المنازل الفلسطينية والمنشآت. ورأينا بأم العين هذه المعاناة حيث يدفع المواطنون البسطاء، ولا سيّما الأطفال والنّساء والمسنّون، ثمن صراعات سياسية عسكرية، لم تهدأ منذ أكثر من ستّين عاما. وزادت تلك الأحداث من عذاب الكنيسة في غزّة، مما زاد في تقلص عدد المسيحيين هناك. كما هي الحال في سائر أنحاء الأرض المقدسة.

الأهل في فلسطين يتطلعون إلى السيادة والاستقلال. وهم ليسوا في وطن المسيح غرباء. فهو وطنهم. وقد تشرّفت هذه الأرض بالتجسد والفداء. وشهدت المدينة المقدسة ميلاد الكنيسة، يوم العنصرة (أعمال الرسل 2: 1 وتابع). والمسيحي مواطن أصيل، يدين بالعبادة لله، والولاء للوطن. ولا غَرو فان الشعب الفلسـطيني، أسوة بالشعب الإسرائيلي، يصبو إلى الاستقرار. علماً بأن السـلام هو ثمرة العدل، كما جـاء على لسـان أشـعيا النـبي. "ويكون ثمر العدل سـلاماً" (أشـعيا 32: 17).

- البابا في بلادنا

لكننا وسط هذا الظلام وهذه الآلام أبصرنا نوراً عظيماً قادماً؛ إنه البابا بنديكتوس الذي زار بلادنا، وأضفى عليها من زيارته سلاما. ترقب المؤمنون هذه الزيارة الفريدة وبنوا عليها الآمال الكبيرة. إنها زيارة الأب الحاني لأبنائه المتألمين. وقد جاء ليسند بصلواته ورعايته، إيمان أبنائه. هو الذي يحمل "همّ جميع الكنائس"، قطيع الرب يسوع في هذه البقعة المييّزة من أرض البشر. ويفتح قلبه الرحب للاخوة من غير المسيحيين، ولا سيما الموحّدين بالله، الذين يتّخذون من أبي المؤمنين إبراهيم قدوةً ومثالاً. من قبله زارنا الحبران الأعظمان بولس السادس سنة 1964 ويوحنا بولس الثاني سنة 2000. مما يدل على شغف قادة الكنيسة المسيحية بهذه الأرض المقدسة، وحرصهم على وحدة هذه الأبرشية، ومشاركتهم أهل هذه الديار همومهم وآمالهم وحقوقهم في مستقبل واعد وسلام دائم وعادل: "من يتألم ولا أتألم أنا" (2 كورنثوس: 11-29).

لقد استهل الحبر الأعظم زيارته الرسولية بالأردن، مثل سلفيه بولس السادس ويوحنا بولس الثاني. حيث بارك حجر أساس كنيستنا في موقع مغطس المسيح على يد نبي الأردن يوحنا المعمدان، وبدء البشارة الإنجيلية بملكوت السماوات. كما بارك حجر أساس جامعة مادبا قبل أن يتابع قداسة البابا حجّه إلى سائر أنحاء الأرض المقدسة في فلسطين وإسرائيل، مبيّناً وحدة أبرشيتنا في الضفّتين، وسائر مناطق هذه الديار المباركة. ولقد استقبلنا بمحبّة خليفة القديس بطرس على كرسي "كنيسة روما جزيلة القداسة" (كما كتب القديس صفرونيوس بطريرك القدس في رسالته السينودية). وبرجاء الإيمان نأمل وندعو ونصلّي مع الحبر الأعظم خصوصاً في المغطس على نهر الأردن وناصرة البشارة ومهد بيت لحم وقدس الصليب والقيامة والصعود والعنصرة، لكي يأتي ملكوت المسيح على أرض المسيح، فينهل أهلنا "المياه من ينابيع الخلاص مبتهجين" (أشعيا 12: 2) وينعم وطن الفداء ونهر المعمودية وسائر المنطقة بالسلام الذي يجلبه الطفل الذي ولدته العذراء دائمة البتولية في بيت لحم (ميخا 5: 1-5).

6) آفة الهجرة

تعاني الكنيسة اليوم في هذه الأبرشية، وفي كل أجزائها، من صعوبات كثيرة، ومن تناقص في أعداد أبنائها وبناتها. وقد أوهنها نزيف الهجرة. وبات هاجس الفقر كابوساً على الكثيرين من أرباب الأسَر. تشهد معظم المناطق عدم استقرار، يجعل الواقع مرّاً والمستقبل مظلماً. نأمل أن تكون زيارة قداسته مبعثاً للرجاء وقوة للصمود وروح الانتماء، وتوثيق الأخوّة بين أبناء الوطن الواحد.

سنة 1922 كانت نسبة المسيحيين الفلسطينيين في القدس تزيد قليلا على 53 بالمئة، وعام 1948 كان عددهم فيها 31 الفاً أي نحو عشرين بالمائة من مجمل السكّان. أمّا اليوم فيتراوح عددهم في كل الرعايا بين عشرة آلاف إلى أحد عشر ألفا فقط؛ ومجموع السكّان أكثر من 850 الفا معظمهم من اليهود.

بيت لحم والناصرة كانتا مدينتين تحملان الطابع المسيحي، وما من عجب في ذلك، على مدى ألف وتسعمائة وسبعين سنة على الأقل. ويبدو انه لم يعد في بيت لحم سوى 12 بالمئة من المسيحيين، بعد أن كانوا 85 بالمئة سنة 1948. كان المسيحيون يشكّلون إجمالا حوالي عشرين بالمئة من سكّان فلسطين آنذاك، لكن نسبتهم الأن أقلّ بكثير اذ يسكن نحو 150 ألفاً في الضفة الغربية وحوالي 3000 مسيحي في قطاع غزّة. وتشير الإحصائيات إلى ما يقدّر بنحو 120 ألف مسيحي عربي في إسرائيل، بالاضافة إلى بضعة مئات من المسيحيين الناطقين بالعبرية.

أمّا في الأردن، فيبلغ عدد المسيحيين نحو 160 ألفا، بنسبة أربعة بالمئة فقط من السكّان البالغ عددهم حوالي خمسة ملايين ونصف المليون نسمة.

إنّ عدد أفراد أبرشيتنا البطريركية اللاتينية يقدَّر بخمسة وستّين الفاً في كل المناطق المشار اليها، تجمعها وحدة رسولية كنسية وجدانية روحانية تاريخية إدارية في شركة الاتحاد الكامل بين كرسي القديس يعقوب الصغير وكرسي القديس بطرس في روما، التي يصفها القديس صفرونيوس بطريرك القدس بأنها "مقر العقائد القويمة" و"منارة كل الكنائس تحت الشّمس" (أنظر مانسي، المجلّد العاشر، فقرة 896، في مؤلّف كريستوف فون شونبورن "صفرونيوس بطريرك القدس" (في الفرنسية Sophrone de Jérusalem)، باريس، مطبوعات بوشين، 1972، ص 94، والرسالة السينودية للبطريرك صفرونيوس، فقرة 3188 د.).

7) وحدة الأرض في الإنجيل

شاءت العناية الإلهية أن تحضن كل هذه المناطق من أرض كنعان، أي يهوذا والسامرة والجليل وفلستيا (أي الساحل الغربي) وشرقي الأردن من أراضي عمّون ومؤاب وآدوم وجلعاد وغيرها، وذلك عن طريق الإيمان بالمسيح الذي "جمع أبناء الله المتفرقين" بحيث لم يعد هنالك فرق "بين يهودي ويوناني" (غلاطية 3: 27-28) بما انهم بالمعمودية "لبسوا المسيح". وكان السيد له المجد قد طاف كل هذه المقاطعات بما فيها المدن العشر وتبعته منها حشود غفيرة (متّى 4: 25، مرقس 5: 1 وتابع، ثم مرقس 7: 31). معظم هذه المدن واقعة في شرقي الأردن وهي، حسب تحديد المؤرّخ الروماني ابلينيوس: (أنظر المحيط الجامع في الكتاب المقدّس والشّرق القديم"، أ. بولس الفغالي، ص 546) بيسان (في وادي الأردن ) وهيبوس ودمشق وجدارة (أم قيس في الأردن ) ورافانا وقاناثا وبيلا ودايون جيراسا (جرش) وفيلادلفيا (اي ربّة عمّون أو عمّان العاصمة الأردنية). وانطلق أمير الرسل بطرس من القدس إلى قيصرية ويافا، حيث عمّد أول الوثنيين الضابط الروماني من الكتيبة الايطالية قرنيليوس (أعمال الرسل 10). وبشّر الشمّاس فيليبس أرض الساحل الغربي الفلسطي (أعمال الرسل 8: 26 وتابع). وقام رسول الأمم برحلات إلى جزيرة قبرص وغيرها.

8) وحدة البطريركية الأورشليمية عبر العصور

صحيح أن الكنيسة لم تتمتـع بالحرية حتّى مرسوم ميلانـو سنة 313 م، ولكن ملكوت السيد المسيح انتشر في وطنه قبل هذا التاريخ. وكان نهر الأردن أيضا إنطلاقة للإنجيل المقـدّس، بما ان السيد له المجد نال فيه المعمودية على يد يوحنا المعمدان وبما انه الباب الطبيعي للعالم الشرقي. وفي مجمـع خلقيدونيـة سـنة 451 كرّس الكرسي الرسولي وحدة "الثلاث فلسـطينات" (أنظر: الأب د. أنطون عودة عيسى، "أقليـات فلسـطين المسـيحية عـبر القـرون" ( (Les minorités chrétiennes de Palestine à travers les siècle، مطبعة الآباء الفرنسيسكان، القدس 1977، ص 79 وتابع) بتنصيبه عليها بطريركا للمدينة المقدسـة، الأسقف "يوفيناليس" (422-458). ولقد اعترف موفدو الحبر الأعظم والامبراطور وسائر آباء المجمع الخلقيدوني بصلاحية بطريركية القدس على "الثلاث فلسطينات" التي كانت تضمّ المقاطعات التالية:

فلسطين الأولى

وعاصمتها الكنسية الإقليمية قيصرية على البحر. من مدنها: رأس العين ويافا وجدارة أو جزارا، واللدّ، ونقوبوليس أي عماوس، ويمنيا (ببنيه اليوم) واسدود وعسقلان وغزّة ورفح وبيت جبرين، ونابلس وسبسطية و"البارامبوليس" أي أسقفية البدو في أريحا ومنطقتها (وكان أسقفاً عليها بطرس عصب البيت)، وباكاثا (بقرب ناعور).

فلسطين الثانية

وعاصمتها الكنسية الإقليمية اسقيثوبوليس أي بيسان. من مدنها وقراها: لجّون واكسال وطابور وكفركنّا وصفورية وطبرية وبيلا (خربة فاهيل) وجدارة (أم قيس شرقي الأردن ) وهيبوس (قلعة الحصن شرقي الأردن ) وكابيتولياس التي منها الشهيد بطرس (بيت راس، قرب إربد).

فلسطين الثالثة

وعاصمتها الكنسية الإقليمية البتراء: ومن مدنها: الكرك وأريوبوليس (الربّة) وزوارا (غور الصّافي) وأيلة (العقبة).

في العصر الذهبي أي القرن السادس الميلادي، كان في كنيسة فلسطين تسعة وأربعون أسقفا: 27 منهم لفلسطين الأولى و13 للثانية و9 للثالثة. وكثرت الكنائس. منها أربع عشرة في مادبا وخمس عشرة في أم الجمال وثلاث عشرة في جرش وتسع في عابود (قضاء رام الله في فلسطين).

- الكثلكة في العصور الحديثة

مزّقت الانقسامات ثوب المسيح الواحد في الأرض المقدسة، كما فعلت في سائر أرجاء العالم المسيحي. وتمّ الانشقاق الشرقي الكبير بين روما والقسطنطينية في آب سنة 1054. حاول الصليبيون إنشاء كيان مسيحي في أواخر القرن الحادي عشر. وأُنشئ