رسالة البابا يوحنا بولس الثاني إلى الأُسر

  • كلمة للأُسر
  • القسم الأول- حضارة المحبة
  • القسم الثاني- "ما دام العريس معكم!"


  • كلمة للأُسر

    بمناسبة سنة الأُسرة ، 1994

    أيتّها الأسّر العزيزة!
    1- إنّ الاحتفال بسنة الأسرة يُتيح لي الفرصة السعيدة لأقرع باب داركم أنا الرّاغب في إقرائكم التحيّة بعطف شديد، وفي التحدّث إليكم. إنّي أقوم بذلك في هذه الرّسالة، منطلقاً من العبارة الواردة في البراءة "فادي الإنسان" التي نشرتُها منذ افتتاح عهدي بخلافة بطرس. لقد كتبت إذ ذاك: "الإنسان طريق الكنيسة" (1).
    بهذه العبارة أردت التّذكير، قبل كل شيء، بالطرّق المتعدّدة جداً، التي يسلكها الإنسان في مسيرته، وأردت في الوقت نفسه أن ألُفت إلى رغبة الكنيسة العميقة في أن تُرافقه في هذه المسيرة على طرق وجوده الأرضيّ. الكنيسة تشترك في الأفراح والآمال، والأحزان والضّيقات (2) التي ترافق مسيرة البشر اليوميّة، وفي صميم ذاتها اقتناعٌ بأن المسيح نفسه هو الذي أرسلها في هذه الدروب كلّها: هو الذي وكلّ الإنسان إلى الكنيسة، وهو الذي وكله بمثابة "طريقٍ" لرسالتها ومهمّتها.

    الأسرة، طريق الكنيسة
    2- الأسرة، في هذه الطرق المتعدّدة، هي الأولى والأهمّ: إنها طريق عامّة، مع كونها خاصّة، ووحيدة على الإطلاق، كما أن كل إنسان وحيد؛ طريقٌ لا يستطيع الكائن البشريّ أن يحيد عنها. وهكذا فهو يأتي إلى العالم أصلاً ضمن أسرةٍ؛ ومن ثمّ يمكن القول بأنه مدينٌ لهذه الأسرة بوجوده الإنسانيّ نفسه. عندما تُفتقد الأسرة ينشأ في الشخص الآتي إلى العالم نقصٌّ مقلق وأليم، يكون ثقيلاً على حياته كلها في ما بعد. والكنيسة تحدب باهتمامٍ عطوف على الذين يعيشون في مثل هذه الحالة، لأنها تدرك إدراكاً صحيحاً الدّور الأساسيّ الذي من شأن الأسرة أن تقوم به. وهي تدرك إلى ذلك أنه من الطبيعيّ أن يترك الإنسان أسرته لكي يحقق بدوره دعوته الخاصّة في نواةٍ عيليّة جديدة. وإنّه، وإن اختار الإقامة منفرداً، تظلّ الأسرة، إذا حصّ القول، أفقه الوجوديّ، والمجموعة الأساسيّة التي تترسّخ فيها سلسلة علاقاته الاجتماعية كلّها، من أشدّها قرباًَ والتصاقاً إلى أشدّها بعداً. ألا نتحدّث عن "الأسرة البشريّة" عندما نشير إلى مجموعة البشر الذين يعيشون في العالم؟
    تمتدّ جذور الأسرة إلى المحبة نفسها التي يشمل بها الخالق العالم الذي خلقه على حدّ ما ورد "في البدء" في سفر التكوين (1:1). وفي الإنجيل يؤيّد يسوع ذلك تأييداً كاملاً: "فقد أحبّ الله العالم حتى إنه بذل ابنه الوحيد" (يو 3 : 16). الابن الوحيد، الواحد الجوهر مع الآب، "الإله المولود من الله، النّور الصّادر من النّور"، بالأسرة دخل في تاريخ البشر. "إن ابن الله نفسه بالتجسّد اتّحد نوعاً ما بكل إنسان. لقد اشتغل بيدين بشريّتين، (...) وأحبّ بقلبٍ بشريّ. إنّه ولد من العذراء مريم، وصار في الحقيقة واحداً منّا، شبيهاً بنا في كل شيء ما عدا الخطيئة" (3). ولئن "جلا المسيح الإنسان على ذاته جلاءً كاملا" (4)، فقد بدأ ذلك بالأسرة التي اختار أن يولد ويترعرع فيها. ومن المعلوم أن الفادي قد لزم الخفاء في الناصرة فترةً غير يسيرة من حياته، "خاضعاً (لو 2 : 51)، في كونه "ابن الإنسان"، لمريم أمّه وليوسف النجّار. أليس "الخضوع" البنويّ هذا هو التعبير الأول عن خضوعه لأبيه "حتى الموت" (فيل 2 : 8) الذي افتدى به العالم؟
    وهكذا فلسرّ تجسّد الكلمة الإلهي علاقة وثيقة بالأسرة البشريّة. ولم تكن تلك العلاقة بأسرة واحدة فقط، أسرة الناصرة، بل بكل أسرةٍ على وجهٍ ما، وذلك تمشّياً وما قال المجمع الفاتيكاني الثاني في شأن ابن الله الذي "بالتجسّد اتحّد نوعاً ما بكل إنسان" (5). وعلى مثال المسيح الذي "أتى" إلى العالم "ليخدُم" (متى 20 : 28) ترى الكنيسة أن خدمة العيلة هي من مهمّاتها الجوهرّية. وبهذا المعنى تقوم "طريق الكنيسة" على الإنسان والأسرة معاً.

    سنة الأسرة
    3- لهذه الأسباب ترحب الكنيسة ترحيب فرح بمبادرة مؤسسة الأمم المتّحدة بجعل السنة 1994 سنة الأسرة العالمية. هذه المبادرة تظهر أن قضية الأسرة قضيّة أساسيّة بالنسبة إلى الدول الأعضاء في تلك المؤسّسة. ولئن رغبت الكنيسة في أن تشترك في تلك المبادرة فذلك لأن المسيح أرسلها، إلى "جميع الأمم" (متى 28 : 19). وليست المرّة الأولى التي تتبنّى الكنيسة فيها مبادرة عالميّة لمؤسّسة الأمم المتّحدة. يكفي التّذكير مثلاً بسنة الشباب العالميّة في عام 1985. وهكذا تثبت حضورها في العالم محقّقة الهدف الذي كان غالياً لدى البابا يوحنا الثالث والعشرين، والذي أوحى بالدستور المجمعي "الفرح والرّجاء".
    في عيد "العائلة المقدّسة" من السنة 1993 افتتحت، في مجموعة الكنيسة كلّها، "سنة الأسرة"، المرحلة التّعبيريّه، في خطّة التَّهييء ليوبيل السّنة 2000 الكبير الذي يسجّل نهاية الألف الثاني وبداية الألف الثالث لميلاد يسوع المسيح. فهذه السّنة يجب أن تحملنا على التوجّه، روحاً وقلباً، نحو الناصرة، حيث قام المفوّض الرسولي، في 26 كانون الأول الأخير، بترؤس تدشينها تدشيناً رسمياً بالاحتفال بسرّ الإفخارستيّا.
    من المهمّ على مدّ هذه السنة تجديد اكتشاف آيات محبّة الكنيسة للأسرة واهتمامها لها، محبّة واهتمام جرى التّعبير عنهما منذ فجر المسيحيّة، عندما كانت الأسرة تعّد، على وجهٍ تعبيريّ، "كنيسة بيتية". وكثيراً ما نعيد، في أيامنا هذه، تعبير "الكنيسة البيتيّة" الذي تبنّاه المجمع (6)، والذي نرجو أن يظلّ أبداًَ مضمونه حيّاً وراهناً. هذه الرغبة لم يمحها قطّ وعيّ الإنسان للحالات الجديدة في وجود الأسر في عالم اليوم. وهذا ما يُضيف معنى إلى العنوان الذي اختاره المجمع، في الدستور الراعويّ "الفرح والرجاء" للدّلالة على مهامّ الكنيسة في الحالة الحاضرة: "تعزيز كرامة الزّواج والأسرة" (7). وبعد المجمع نجد في الإرشاد الرسولي لسنة 1981: "وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم" (Familiaris consortio) مرجعاً مهمّاً. في هذا النصّ معالجة لتجربة واسعة ومعقّدة في شأن الأسرة: إنها في ما بين الشعوب والبلدان المختلفة تبقى أبداً وفي كل مكان "طريق الكنيسة". وهي، على وجهٍ ما، تكونها أكثر فأكثر حيث تعتور الأسرة أزمات داخلية، أو تتعرض لمؤثّرات ثقافية واجتماعية واقتصادية ضارّة تعمل على تفكيك عُراها، وقد تكون موانع لذات تكوينها.

    الصلاة
    4- أودّ في هذه الرسالة أن أتوجّه لا إلى الأسرة بوجه عامٍ وتجريديّ، بل إلى كل أسرةٍ خاصّة ذاتية من جميع بقاع الأرض، في أي مكان وجدت، ومهما تنوّعت وتعقّدت ثقافتها وتاريخها. إن المحبّة التي "أحبّ بها الله العالم" (يو 3 : 16)، "والمحبة إلى النهاية" التي أحبّ المسيح الجميع وكلّ واحدٍ بمفرده (يو 13 : 1) تمكّنان من توجيه هذه الرسالة إلى كل أسرة، "خليّة" الحياة "للأسرة" البشريّة الكبيرة والشاملة. إن الآب، خالق الكون، والابن المتجسّد، فادي البشريّة، هما مصدر هذا الانفتاح الشامل على البشر وكأنّهم إخوةٌ وأخوات، وهما يدعوان إلى تناولهم جميعاً في الصلاة التي تبدأ بالكلام المؤثّر "أبانا". الصلاة تعمل على أن يبقى ابن الله في ما بيننا: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون هناك في ما بينهم" (متى 18 : 20). هذه الرسالة الموجّهة إلى الأسر تريد أن تكون قبل كل شيء صلاةً موجّهة إلى المسيح لكي يبقى في كل واحدة من الأسر البشرية نداءً موجّهاً إليه، من خلال الأسرة الصغيرة القائمة على الأبوين والأبناء، ليقيم في أسرة الأمم الكبيرة، حتى نستطيع معه جميعاً أن نقول في الحقيقة: "أبانا!". يجب أن تصبح الصلاة العنصر الأهمّ للكنيسة في سنة الأسرة: صلاة الأسرة، صلاة لأجل الأسرة، صلاة مع الأسرة.
    من الثابت واللافت أن الإنسان، في الصّلاة وبالصّلاة، يكتشف شخصيّته الحقيقية بطريقةٍ غايةٍ في السهولة والعمق: في الصلاة يلمس "الأنا" البشرّ، بطريقة أسهل، عمق كونه شخصاً. وهذا يجري أيضاً على الأسرة التي ليست "خلية" المجتمع الأساسيّة وحسب، بل إنها ذات طابع خاصّ. وهذا الطابع يجد دعماً أوّل وأساسيّاً، ويتثبت عندما يجتمع أعضاء الأسرة الروحيّة وتقوّيها، وتعمل على إشراك الأسرة في "قدرة" الله. في "بركة الزّواج" الاحتفالية، عند الاحتفال بالقران، يستدعي المحتفل بالسرّ الربّ في سبيل المقترنين قائلاً: "أنزل عليهما نعمة الروح القدس حتى يظلاّ أبداً، بفعل محبّتك المبثوثة في قلبيهما، وفيّين للعهد الزوجيّ" (8). فمن هذا "الفيض للروح القدس" تنشأ قوّة الأسر الداخلية، كما تنشأ أيضاً القدرة التي تمكّنها من الاتحاد في المحبّة والحقّ.

    حبّ جميع الأسر والاهتمام بها
    5- فلتصبح سنة الأسرة صلاةً عامّةً ومتواصلة في شتى "الكنائس البيتيّة" ولدى شعب الله كلّه! ولتشمل النيّة في هذه الصّلاة أيضاً الأسر الواقعة في ضيقة أو في خطر، وتلك التي نالها اليأس أو التفكك، والواقعة في الحالات التي وصفها الإرشاد الرسولي "في وظائف العائلة المسيحية..." باللانظاميّة! (9). عساها جميعاً تشعر شعوراً عميقاً بمحبة إخوانها وأخواتها واهتمامهم.
    فلتكن الصلاة قبل كل شيء، في سنة الأسرة، شهادة مشجعة من قبل الأسر التي تحقّق، في الشركة العيلّية، دعوة حياتها الإنسانية والمسيحية! إنهن كثيرات جدّاً في جميع البلدان، وفي جميع الأبرشيّات وجميع الرعايا. وإنه لمن الصواب التفكير في أنهنّ "القاعدة"، حتى وإن لم نتجاهل العدد الكبير "للحالات اللانظامية". والخبرة تظهر أهميّة دور أسرةٍ تعيش على سنن النّظم الأخلاقية، في حياة إنسان يولد فيها، ويترعرع على مسلكها، لكي يسير غير متردد في طريق الخير المنقوشة أصلاً وأبداً في قلبه. هنالك مؤسّسات مختلفة ومتسلّحة بوسائل فعّالة يبدو في همها تفكيك الأسر. ويبدو أكثر من ذلك أحياناً أن هنالك من يسعى بشتى الوسائل لإظهار حالاتٍ "لا نظامية" "نظامية" وجذّابة بتغليفها بظواهر ساحرة. وهكذا فهي تناقض "الحقيقة والمحبّة" اللتين من شأنهما أن تُلهما وتقودا العلاقات بين الرجال والنساء، وهي من ثم أسباب مشادات وانقسامات في الأسر، ذات نتائج وخيمة، ولا سيّما بالنّسبة إلى الأبناء. الضمير الخلقي في ظلام، والالتباس قائم في موضوع الخير والجمال، والحرّية مستعاضٌ عنها بعبوديّة حقيقيّة. تجاه هذا كلّه نرى لأقوال القديس بولس، في شأن الحريّة التي حرّرنا بها المسيح والعبوديّة الناشئة عن الخطيئة (غلا 5 : 1)، نرى لها مدّاً حالياً فريداً، كما نجد فيها ما يشدّنا إلى الأمام.
    إنّنا ندرك إذن كم لسنة الأسرة في الكنيسة من ملاءمة بل من ضرورة؛ وكم تبدو ضروريّة شهادة جميع الأسر التي تعيش دعوتها كل يوم؛ وكم تبدو ملحّةً صلاة كبيرةٌ للأسر تتكثف وتتّسع لتشمل العالم كلّه، وتنطق بالتّعبير عن شكر المحبة في الحقيقة، "وفيض نعمة الروح القدس" (10)، وحضور المسيح بين الآباء والأبناء، المسيح الفادي والعروس الذي "أحبّنا إلى الغاية"، (طالع يو 13 : 1). إنّنا موقنون في أعماق ذواتنا أن هذه المحبّة أعظم من كل شيء، (طالع 1 كور 13:13). وإننا نعتقد بأنه في إمكان هذه المحبّة أن تتفوق وتتغلّب على كل ما ليس محبّة.
    فلترتفع ارتفاعاً متواصلاً، في هذه السنة، صلاة الأسر، "الكنائس البيتيّة"! ولتسمع لدى الله أولاً، ثمّ لدى البشر، حتى لا يقع هؤلاء في الشكّ، ولا يتهاوى من يهوي بهم الضغف البشري أمام الإغراء الكاذب الذي تقدّمه الخيرات التي ليس لها من الخير إلاّ الظاهر، كتلك التي تقدّمه التّجارب!
    في قانا الجليل حيث دُعي يسوع إلى وليمة عرس توجّهت والدته – وكانت حاضرةً أيضاً – إلى الخدم وقالت لهم: "إفعلوا كل ما يقوله لكم" (يو 2 : 5). وإلينا أيضاً، نحن الذين دخلنا في سنة الأسرة، تتوجّه مريم بهذا الكلام. والذي يقوله لنا المسيح في هذه المرحلة الخاصّة من التاريخ، هو دعوةٌ صارخةٌ إلى صلاة عظيمة مع الأسر ومن أجل الأسر. والعذراء مريم تدعونا إلى الاتّحاد، بهذه الصلاة، بعواطف ابنها الذي يحُبّ كلّ أسرة. إنه عبّر عن محبّته هذه في مطلع رسالته الفدائية، أي بحضوره التقديسيّ في قانا الجليل، ذلك الحضور الذي لا ينقطع أبداً.
    فلنصلّ لأجل أسر العالم كلّه. لنصلّ به، ومعه، وفيه، الآب "الذي منه تسمى كل أبوّة في السماوات وعلى الأرض" (أ ف 3 : 15).

    -----------------------------------

    1) أنظر الرسالة العامة "فادي الإنسان" (4 آذار 1979)، الرقم 14: في مجلة
         "أعمال الكرسي الرسولي" AAS 71 (1979), pp. 284- 285).
    2) أنظر وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، الدستور الراعويّ: الكنيسة في عالم
        اليوم (الفرح والرجاء)، الرقم 1.
    3) المرجع نفسه، الرقم 22.
    4) المرجع نفسه.
    5) المرجع نفسه.
    6) أنظر دستور العقائدي: الكنيسة (نور الأمم)، الرقم 11.
    7) أنظر الدستور الراعوي: الكنيسة في عالم اليوم (الفرح والرجاء)،
         القسم الثاني، الفصل الأول.
    8) كتاب الطقوس الرومانيّ، Ordo celebrandi Rituale Romanum
         matrimonium, n. 74,  2e édition typique, 1991, p. 26  .
    9) أنظر الإرشاد الرسولي "في وظائف العائلة المسيحية..." (Familiaris Consortio)
         22 / 11 / 1981، الأرقام 79 – 84: AAS 74 (1982), pp. 180 – 186
    10) كتاب الطقوس الرومانيّ...، الرقم 74، الطبعة المذكورة ص 26.


     



    القسم الأول- حضارة المحبة


    "ذكراً وأنثى خَلقهم"
    6- الكون الواسع والشديد التنوّع، عالم جميع الكائنات الحيّة، منقوشٌ في أبوة الله على أنّه ينبوعه (طالع أ ف 3 : 14 – 16). من الطبيعي أنه منقوش على خطة التّشابه التي تمكننا، منذ فاتحة سفر التكوين، من تمييز حقيقة الأبّوة والأمومة، ومن ثم حقيقة الأسرة البشرية أيضاً. مفتاح التّّفسير كامنٌ في مبدأ "صورة الله" و"مثاله"، الذي يبرزهُ النص الكتابي إبرازاً شديد الوضوح (تك 1 : 2). لقد خلق الله بقوة كلمته "ليكن"! (مثلاً تك 1 : 3). ومن مقتضى البيان أن تكمّل كلمة الربّ هذه، في موضوع خلق الإنسان، بهذه الكلمات الأخرى: "لنصنع الإنسان على صورتنا، كمثالنا" (تك 1 : 26). فكأنيّ بالخالق، قبل خلقه الإنسان، قد أنكفأ على ذاته يطلب له المثال والفكرة في سرّ كينونته الإلهيّة، ومُذ ذاك ظهر ذلك السرّ ولد الكائن البشريّ عن طريق الخلق: "خلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه، ذكراً وأنثى خلقهم" (تك 1 : 27).
    قال الله لخليقته الجديدة مباركاً: "أنموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها" (تك 1 : 28). فيستعمل سفر التكوين تعبيراً استعمل قبلاً في نصّ خلق الكائنات الحية الأخرى، أي "اكثري"، إلا أن المفهوم التشبيهيّ فيه واضح. أليس هنالك، إذا ما تقرّينا كامل النص في ضوء قرائنه، تشبيه بالولادة والأبوة والأمومة؟ لا أحد من الكائنات الحيّة خلق "على صورة الله، كمثاله" ما عدا الإنسان. وإن لم يكن هنالك فرقٌ بيولوجي في الأبوة والأمومة عند الإنسان وسائر كائنات الطبيعة، فإن لهم عند الإنسان إلى ذلك، وعلى نحوٍ جوهريٍ وانفراديٍّ، "شبهاً" مع الله، تقوم عليه الأسرة في كونها شركة حياة بشريّة، شركة أشخاصٍ يوجدهم الحبّ (Communio personarum) .
    من الممكن، في ضوء العهد الجديد، استشفاف كون مثال الأسرة الأصيل يجب طلبه في الله ذاته، في سرّ حياته الثالوثيّ. الـ "نحن" الإلهيّ هو المثال الأزلي للـ "نحن" البشريّ، وقبل كل شيء للـ "نحن" المؤلّف من الرّجل والمرأة، المخلوقين على صورة الله، كمثاله. إن أقوال سفر التكوين تتضمن، في شأن الإنسان، الحقيقة التي تنطبق عليها تجربة البشر نفسها. الإنسان مولودٌ منذ "البدء" ذكراً وأنثى: حياة المجموعة البشرية – في جماعاتها الصغيرة وفي مجتمعها كله – موسومة بسمة الثنائيّة الأصليّة هذه. فمنها "ذكورة" الأشخاص أو "أنوثتهم"؛ ومنها أيضاً تكتسب كلّ جماعةٍ ميزتها وغناها في تكامل أشخاصها. قد يكون إلى هذا مدلول عبارة سفر التكوين: "ذكراً وأنثى خلقهم" (تك 1 : 27) وفي هذا أيضاً أوّل إعلان لمساواة الرجل والمرأة في الكرامة: إنّهما كليهما شخصان متماثلان. فتكوينهما، مع الكرامة النوعيّة التي تتبعه، يثبت منذ "البدء" ميزات خير البشريّة العام في كل حجم وفي كل ميدان حياة. ففي سبيل هذا الخير العام يعملان كلاهما، رجلاً وامرأة، وعلى هذا التكاتف تقوم، في أصول التعايش البشريّ نفسها، ميزة التشارك والتّكامل.

    عهد الزّواج
    7- منذ البدء تعدّ الأسرة التعبير الأوّل والأساسيّ عن طبيعة الإنسان الاجتماعية. وهذا المفهوم لم يتغيّر جوهرياً حتى في يومنا الحاضر. ولكنّهم يفضّلون اليوم أن يبرزوا في الأسرة، التي تتألف منها أصغر مجموعة بشريّة في الأساس، ما هو من الإسهام الشخصيّ للرّجل والمرأة. فالأسرة مجموعة أشخاص تقوم حقيقة وجودهم وحياتهم معاً على الشركة (Communio personarum) . وهنا أيضاً، ومع استثناء سموّ الخالق المطلق بالنسبة إلى الخليقة، تبرز الإشارة المُثلى إلى الـ "نحن" الإلهيّ. الأشخاص وحدهم قادرون على الوجود "في شركة". الأسرة تنشأ من الشركة الزوجيّة التي ينعتها المجمع الفاتيكانيّ الثاني بالـ "عهد" الذي يتبادل به الأزواج العطاء والتقبّل" (11).
    إن سفر التكوين يوقفنا على هذه الحقيقة عندما يثبت، بالنسبة إلى تأسيس الأسرة بالزواج، "أن الرجل يترك أباه وأمّه ويلزم امرأته فيصيران جسداً واحداً" (تك 2 : 24). وفي الإنجيل، يكرّر المسيح، في نقاشه مع الفرّيسيين، هذا الكلام نفسه ويضيف: "فليسا هما اثنين بعد ولكنّهما جسدٌ واحد. وما جمعه الله فلا يفرقّه إنسان" (متى 19 : 6). إنه يكشف مرّةً أخرى عن المضمون القياسيّ لأمر كان موجوداً "منذ البدء" (متى 19 : 8) وهو يحتفظ أبداً بهذا المضمون في ذاته. فإن أقرّه الربّ "الآن" فهو يقرّه لكي يوضح ويبعد عن اللّبس، على عتبة العهد الجديد، ميزة الزواج الغير قابلة الحلّ، على أنها أساس خير الأسرة العامّ.
    عندما نجثو مع الرسول على الرّكب في حضرة الآب الذي منه تسمى كلّ أبوة وأمومة (طالع أ ف 3 : 14 – 15) نعي، في كون الوالدين والدين، أنه الحدث الذي تتحقق به الأسرة، وقد تألفت بعقد القران، تحققاً "بالمعنة الكامل والدقيق للفظة" (12). الأمومة تفترض الأبوّة بالضرورة، وعلى ذلك فالأبوة تفترض الأمومة بالضّرورة: إن ذلك ثمرة الثنائية التي جعلها الخالق، "منذ البدء" في الكائن البشريّ.
    فقد أوردت مفهومين متقاربين لا مترادفين: مفهوم "الشركة" ومفهوم "المجموعة". و"الشركة" تعني العلاقة الشخصيّة بين الـ "أنا" والـ "أنت"؛ أما "المجموعة" فبخلاف ذلك، تتجاوز هذا الخطّ في اتّجاه "مجتمع"، أي "نحن". فالأسرة، في كونها مجموعة أشخاص، هي إذن "المجتمع" الإنسانيّ الأوّل. إنها تولد حالما يتحقق عهد الزواج، الذي ينقل الزّوجين إلى شركة محبّةٍ وحياة ثابتة تكتمل اكتمالاً كليّاً وعلى وجهٍ نوعيّ، بإنجاب أولاد: بـ "شركة" الأزواج توجد "المجموعة" العيليّة. "المجموعة" العيلية مشربةٌ إشراباً حميماً بما يؤلف جوهر "الشركة" الخاصّ. هل من "شركة"، على المستوى البشريّ، تشبه تلك القائمة بين أمّ وابنها، الذي حملته أولاً في أحشائها، ثم وضعته بعد ذلك؟
    في الأسرة المؤلفة هكذا تتجلّى وحدةٌ جديدة تقوم فيها قياماً كليّاً علاقة "شركة" الأهل. والخبرة تظهر أنّ فيها قياماً كليّاً علاقة "الشركة" الأهل. والخبرة تظهر أنّ هذا القيام واجبٌ وتحدّ. الواجب يلزم الأزواج ويُفعّل عهدهما الأصيل. ومن شأن الأبناء الذين أنجبوهم – وهنا التحدّي – أن يثبّتوا هذا العهد بتنمية وتعميق شركة الأب والأمّ الزوجيّة. وإذا لم يتمّ الأمر كذلك وجب التساؤل هل الأثرة قد تغلّبت على الحبّ، تلك الأثرة التي تكمن حتى في حبّ الرّجل والمرأة بفعل الميل البشريّ إلى الشرّ. يجب على الأزواج أن يتنبّهوا لذلك. يجب عليهم، منذ البداية، أن يتوجّهوا بقلوبهم وأفكارهم إلى الله الذي "منه تسمّى كلّ أبوّةٍ"، لكي تستمد أبوّتهم وأمومتهم من هذا المورد القدرة على التجدّد المتواصل في المحبّة.
    الأبوّة والأمومة هما في ذاتهما إثبات خاصّ للمحبة، وهما يتيحان اكتشاف سعتها وعمقها الأصيلين. ولكنّ ذلك لا يجري بطريقة آلية. إنها بالحري مهمّة موكولة إليهما معاً، إلى الزوج والمرأة. إنّ الأبوة والأمومة تنشئان في حياتهما "جدّةٌ" وغنى عجيبين إلى حدّ أنّه لا يمكن التقرّب إليهما إلاّ "ركوعاً".
    تظهر الخبرة أن الحبّ البشريّ، الموجّه من طبيعته إلى الأبوة والأمومة، يصطدم أحياناً بأزمةٍ عميقة، وهو من ثمّ مهدّد تهديداً جدّياً. فلا بد، والحال هذه، من الالتفات إلى خدمة مستشاري الزواج أو الأسرة، الذين يمكن عن طريقهم التوسّل بوسائل مختلفة منها عناية علماء النفس وخبراء المعالجة النّفسية. وإلى ذلك فلا يمكن التّغاضي عن قيمة أقوال الرسول الدّائمة: "إني أجثوا على الرّكب في حضرة الآب الذي منه تسمّى كل أبوةّ في السّماء وعلى الأرض". الزّواج، الزّواج السّريّ هو معاهدة أشخاصٍ في المحبّة. والحبّ لا يمكن تعميقه والحفاظ عليه إلاّ بالحبّ، ذلك الحبّ الذي "أُفيض في قلوبنا بالرّوح القدس الذي أعطي لنا" (رو 5:5). ألا يحسن بصلاة سنة الأسرة أن تتمحور على النقطة الرّئيسية والنهائيّة التي يقوم بها الرّباط الفعّال، أي الانتقال من الحبّ الزوجيّ إلى الإنجاب، ومن ثمّ إلى الأبوّة والأمومة؟ أليس ههنا يصبح من الضروريّ "فيض نعمة الروح القدس" الذي يُستمدّ في الاحتفال الليترجيّ بسرّ الزّواج؟
    إن الرسول يجثو على الركب أمام الآب ويتوسّل إليه "ليعطيكم أن تتأيّدوا في القوّة بروحه في الإنسان الباطن" (أف 3 : 16)؟ "فقوة الإنسان الباطن" هذه ضرورية في الحياة العيليّة، ولا سيّما في آونة محنتها، أي عندما يُدعى الحبّ إلى التغلب على المحنة الصعبة، ذلك الحبّ الذي عُبّر عنه، في الطقس الليترجيّ، عند تبادل الرضى، بالكلمات التالية: "إني أعد بأن أبقى على الأمانة... كل أيّام حياتي".

    وحدة الاثنين
    8- "الأشخاص" وحدهم يستطيعون أن يفوهوا بهذه الأقوال؛ وهم وحدهم بإمكانهم أن يعيشوا "في شركة" بالاستناد إلى الاختيار المتبادل الذي هو، أو الذي من شأنه أن يكون واعياً وحراً ملء الوعي والحريّة. إن سفر التكوين، عندما يتكلّم على الرّجل الذي يترك أباه وأمّه لكي يلزم امرأته (طالع تك 2 : 24)، يبرز الاختيار الواعي والحرّ الذي ينشأ عنه القران، جاعلاً أحد الأبناء زوجاً، وإحدى البنات زوجةً. كيف يُفهم فهماً سويّاً هذا الاختيار المتبادل إذا لم يكن هنالك ملء حقيقة الشخص، أي الكائن العاقل الحرّ؟ المجمع الفاتيكاني الثاني يتكلم على المشابهة مع الله بألفاظ جدّ معبّرة. إنه لا يستند بذلك في ذاته، بل يستند أيضاً وخصوصاً إلى "نوع من الشّبه يقوم بين اتّحاد الأقانيم الإلهيّة واتّحاد أبناء الله في الحقّ وفي المحبّة" (13).
    هذه الصّيغة، الفريدة في غنى معناها، تثبت قبل كلّ شيء ما يحدد الهوية العميقة لكل رجل وكل امرأة. وهذه الهويّة تقوم بالقدرة على الحياة في الحقيقة وفي المحبة؛ وهي تقوم، أكثر من ذلك، بالحاجة إلى الحقيقة والمحبّة، البُعد الذي تقوم به حياة الشخص. وهذه الحاجة إلى الحقيقة والمحبّة تفتح الإنسان على الله كما تفتحه على الخلائق: تفتحه على الأشخاص الآخرين، على الحياة " في شركة"، وبنوع خاص على الزّواج وعلى الأسرة. في أقوال المجمع تنجم "شركة" الأشخاص، على وجه ما، عن سرّ الـ "نحن" الثالوثي، وتتصل من ثمّ "الشركة الزّوجية" هي أيضاً بهذا السرّ. إن الأسرة التي تنشأ من الحبّ بين الرجل والمرأة هي ناجمة أساساً عن سرّ الله. وهذا يتّفق وجوهر الرجل والمرأة الحميم، وكرامتهما الأولى والأصلية كشخصين.
    في الزّواج يتّحد الرّجل والمرأة اتحاداً وثيقاً إلى حد أنهما يصيران، على حدّ كلام سفر التكوين، "جسداً واحداً" (تك 2 : 24). الرّجل والمرأة، الشّخصان البشريّان، وإن اختلفا جسدّياً، يتقاسمان، من جرّاء تكوينهما الطبيعيّ، تقاسماً سوياً، القدرة على الحياة "في الحقيقة وفي المحبّة". هذه القدرة التي تميّز الكائن البشريّ شخصاً، ذات بعدٍ روحي وجسديّ معاً. وإنه لمن خلال الجسد يجد الرجل والمرأة أنّهما مهيّآن لإنشاء "شركة شخصين" في الزّواج. وإنّهما، بحكم عقد القران، عندما يتحّدان إلى حدّ أنهما يصبحان "جسداً واحداً" (تك 2 : 24)، يجب أن يجري اتّحادهما "في الحقيقة وفي المحبّة"، مظهرين هكذا النّضوج الخاصّ للأشخاص المخلوقين على صورة الله، كمثاله.
    إن الأسرة التي تنشأ عن ذلك تجد رسوخها الدّاخلي في العهد المعقود بين الزّوجين، والذي جعله المسيح سراً. إنها تجد طبيعتها الجماعية، أو بالحريّ ميزتها "كشركة" في شركة الزوجين الأساسية التي تمتدّ إلى الأبناء. "هل أنتما مستعدّان لأن تتقبّلا بمحبّةٍ الأبناء الذين يريد الله أن يمنحكماهم وأن تقوما بتربيتهم؟..." : سؤال يوّجهه المحتفل إبان الاحتفال بالزّواج" (14). إن جواب الزّوجين يعبّر عن الحقيقة الحميمة للحبّ الذي يوحّدهما. وهذه الوحدة تعمل، لا على الانغلاق على ذاتيهما، بل بالحريّ على الانفتاح على حياةٍ جديدة، على شخصية جدديدة. وبكونهما أبوين، يصبح بإمكانهما أن يعطيا الحياة لكائن شبيه بهما، لا "لحم من لحمهما وعظم من عظامهما" (طالع تك 2 : 23) فحسب، بل صورةٌ ومثالٌ لله، أي شخص.
    بالسّؤال "هل أنتما مستعدّان؟" تذكر الكنيسة الزوجين الجديدين بأنهما أمام قدرة الله الخالقة. إنّهما مدعوّان إلى أن يصيرا والدين، أي مسهمين مع الخالق في إعطاء الحياة. والإسهام مع الله في دعوة كائنات بشريّة جديدة إلى الحياة، يعني الاشتراك في نقل صورة الله ومثاله اللذين يعكسهما كلّ "مولود من امرأة".

    سلالة الشّخص
    9- بشركة الأشخاص التي تتحقق في الزواج، ينشئ الرجل والمرأة أسرةً. وبالأسرة ترتبط سلالة كلّ إنسان: سلالة الشخص. الأبوة والأمومة البشريتان متأصّلتان في علم الحياة، وهما في الوقت نفسه تتفوّقا عليه، الرسول الذي يجثو "على الركب في حضرة الآب الذي منه تسّمى كل أبوّة (كلّ أمومةٍ) في السّماء وعلى الأرض، يبسط على نحوٍ ما، أمام أعيننا، كلّ عالم الكائنات الحيّة، من كائنات السماء الرّوحانيّة حتى كائنات الأرض الجسمانية. كلّ سلالةٍ تجد مثالها الأصيل في الأبوّة الإلهية.
    إلا أنّه، في ما هو من شأن الإنسان، لا يكفي هذا البعد "الكونيّ" من الشّبه مع الله، لتحديد علاقة الأبوة والأمومة تحديداً كامل المطابقة. عندما يولد، من اتّحاد الاثنين بالزّواج، إنسان جديد، فإنه يحمل معه إلى العالم صورةً ومثالاً خاصّين لله ذاته: إن سلالة الشخص مسجّلة في حياتيات الولادة.
    عندما نثبت أنّ الزوجين، بكونهما والدين، يسهمان مع الله الخالق في الحمل وفي ولادة كائن بشريّ جديد (15)، لا نرجع في ذلك إلى نظم علم الحياة فحسب، بل نريد بالحريّ التشديد على أن الله نفسه حاضرٌ في الأبوة والأمومة البشريّتين، على نحوٍ يختلف عمّا يجري في أيّ ولادة أخرى "على الأرض". وهكذا فمن الله وحده يمكن أن تصدر هذه "الصورة"، هذا "المثال" الخاصّ بالكائن البشريّ، كما جرى ذلك في عمل الخلق. الولادة مواصلة الخلق (16).
    وهكذا ففي الحمل كما في ولادة إنسان جديدٍ، يجد الوالدون أنفسهم أمام "سرٍّ عظيم" (أف 5 : 32). فالكائن البشريّ الجديد، على غرار والديه، مدعو هو أيضاً إلى الوجود على أنه شخص؛ إنه مدعوّ إلى الحياة "في الحقيقة وفي المحبّة". ليست هذه الدعوة لما هو في الزّمن فحسب، ولكنها، في الله، دعوة أيضاً من شأنها الإطلالة على الخلود. ذلك هو بعد سلالة الشخص الذي كشفه المسيح نهائياً، بإلقاء ضوء إنجيله على الحياة وعلى الموت البشريّين، ومن ثمّ على مفهوم الأسرة البشريّة.
    لقد أثبت المجمع أن الإنسان هو "الخليقة الوحيدة التي أرادها الله لذاتها على الأرض" (17). إن تكوين الإنسان لا يستجيب فقط لنظم علم الحياة، ولكنه استجابة مباشرة لإرادة الله الخلاّقة، أي للإرادة التي تتعلق بسلالة أبناء وبنات الأسر البشريّة. إن الله "أراد" الإنسان منذ البدء، والله "يريده" في كل حمل وفي كلّ ولادة بشريّين. الله "يريد" الإنسان كائناً مشابهاً له، شخصاً. هذا الإنسان، كلّ إنسان، خلقه الله "لذاته". هذا شأن جميع الكائنات البشريّة في غير استثناء لمن يولدون مرضى أو مشوّهين. إن إرادة الله محفورة في تكوين كل واحد الشخصيّ، إرادة الله الذي يريد أن تكون غاية الإنسان هي، على وجه ما، الإنسان نفسه. الله يلقي الإنسان إلى ذاته، عندما يكله، في الوقت نفسه، إلى مسؤولية الأسرة والمجتمع. أمام كائنٍ بشريّ جديد يجب على الوالدين، أو قد يكون من الواجب عليهم، أن يعوا وعياً كاملاً أن الله "يريد" هذا الكائن "لذاته".
    هذا التعبير المجمل غاية في الغنى وفي العمق. إن الكائن البشريّ الجديد، منذ اللحظة الأولى للحبل به ثم لولادته، معدّ لأن يعبر ملء التعبير عن إنسانيته، لأن "يجد نفسه" (18) شخصاً. إن هذا يعني الجميع على وجه الإطلاق، حتى المرضى بمرضٍ مزمنٍ والمعاقين. إن دعوته الأساسية هي أن "يكون إنساناً": أن يكون إنساناً على مقدار الموهبة الممنوحة؛ على مقدار هذه "الوزنة" أي البشرية نفسها، ثمّ وبعد ذلك على مقدار الوزنات الأخرى.
    بهذا المعنى يريد الله كل إنسان "لذاته". إلا أنه، في مقاصد الله، تمتد دعوة الشخص إلى ما وراء حدود الزمان. إنها تلتحق بإرادة الآب الموحى بها في الكلمة المتجسد: إن الله يريد أن يمد الإنسان إلى الاشتراك في حياته الإلهية نفسها. يقول المسيح: "أتيت لكيما تكون لهم الحياة وتكون لهم أوفر" (يو 10:10).
    أليس هنالك مفارقة بين غاية الإنسان القصوى والقول بأن الله يريد الإنسان "لذاته"؟ إذا كان الإنسان مخلوقاً للحياة الإلهية، فهل هو في الحقيقة موجودٌ "لذاته"؟ تلك مسألة مفتاح، ذات أهمية كبيرة في بدء وجوده الأرضي وفي آخر ذلك الوجود: إنها مهمة على مدى الحياة. كأني بالله، عندما جعل غاية الإنسان في الحياة الإلهية، أخرجه نهائياً من وجوده " لذاته" (19). ما العلاقة بين حياة الشخص والاشتراك في الحياة الثالوثية؟ يجيب القديس أوغسطينس بقوله الشهير: "إن قلبنا لا يجد راحةً إلى أن يستريح فيك" (20). هذا "القلب الفاقد الراحة" يُظهر أن لا مفارقة بين الغايتين، بل أن هنالك رابطاً، توافقاً، وحدةً عميقة. إن الشخص المخلوق على صورة الله ومثاله، بحكم سلالته ذاتها، عندما يشترك في حياة الله، يوجد "لذاته" ويحقق ذاته. إن مضمون هذا التحقيق هو ملء الحياة في الله، الحياة التي تكلم عليها المسيح (طالع يو 6 : 37 ـ 40) الذي افتدانا لكي يدخلنا في تلك الحياة (طالع مر 10 : 45).
    يرغب الأزواج في الأبناء لذواتهم؛ وهم يرون فيهم إكليل حبهم المتبادل. يرغبون فيهم للأسرة، وكأنهم هبةٌ جد ثمينة (21). إنها رغبةٌ غير مستغربةٍ على وجهٍ ما. إلا أنه، في الحب الزوجي كما في الحب الأبوي والأمومي، يجب أن تُسجل حقيقة الإنسان، التي عبر عنها المجمع، بطريقة مُجملة ودقيقة، عندما أثبت أن الله "يريد الإنسان لذاته". ولهذا يجب أن تواسق إرادة الوالدين إرادة الله: بهذا المعنى يجب أن يريدوا الخليقة البشرية الجديدة كما يريدها الخالق: "لذاتها". الإرادة البشرية خاضعةٌ أبداً ولزوماً لناموس الزمن والبُطلان؛ أما إرادة الله فهي بخلاف ذلك أزلية. إننا نقرأ في نبوءة إرميا: "قيل أن أصورك في البطن عرفتك، وقبل أن تخرج من الرحم قدستك" (1 : 5). وهكذا فسُلالة الشخص مرتبطةٌ قبل كل شيء بأزلية الله، ثم وبعد ذلك بالأبوة والأمومة البشريتين اللتين تتحققان في الزمن. فالإنسان موجه إلى أزلية الله منذ لحظة الحبل به.

    خبر الزواج و الأسرة العام
    10ـ إن الرضى الزواجي يُقر ويُثبت الخير الذي هو عامٌ للزواج وللأسرة. "إني أتخذك... زوجةً ـ زوجاً ـ وأعد بأن أُقيم على الأمانة لك في السعادة والشدة، في المرض وفي الصحة، لكي أُحبك واحترمك جميع أيام حياتي" (22). فالزواج شركة أشخاصٍ وحيدة. والأسرة بقيامها على هذه الشركة، مدعوةٌ إلى أن تصير مجموعة أشخاص. إنه تعهُدٌ يعقده الزوجان الجديدان "أمام الله وأمام الكنيسة"، على حد ما يذكرهم به المحتفل عند تبادل الرضى (23). والذين يشتركون في الاحتفال هم شهودٌ على هذا التعهد؛ وفيهم تتمثل الكنيسة والمجتمع هما بيئة حياة الأسرة الجديدة.
    كلمات الرضى الزواجي تحدد الخير العام للزوجين وللأسرة: أولاً خير الزوجين العام: المحبة، الأمانة، الاحترام، ثبات اتحادهما حتى الموت، "جميع أيام حياتهما". فخيرهما كليهما الذي هو في الوقت نفسه خير كل واحد منهما، يجب أن يصبح في ما بعد خير الأبناء. والخير العام، وإن جمع الشخصين في الوحدة، فهو من طبيعته يؤمن الخير الحقيقي لكلٍ منهما. إذا كانت الكنيسة، وعلى غرار الدولة، تقبل رضى الزوجين الناطق في الألفاظ المذكورة آنفاً، فإنما تفعل ذلك لأنه "مكتوب في قلوبهم"، (روم 2 : 15). الزوجان هما اللذان يتبادلان فعل الرضى الزواجي، بالقسم الذي يؤديانه، أي يُعلنان به أمام الله حقيقة رضاهما. ولكونهما معمدين، فهما في الكنيسة خادما سر الزواج. والقديس بولس يعلم أن تعهدهما المتبادل "سرٌ عظيم" (أف 5 : 32).
    إن ألفاظ الرضى تعبر إذاً عن قوام خير الزوجين العام، وهي تدل على ما يجب أن يكون خير الأسرة الآتية العام. ولكي تُبرز الكنيسة ذلك تسألهما هل هما على استعداد لتقبل الأبناء الذين يشاء الله أن يمنحهُماهم، وتربيتهم تربيةً مسيحيةً. هذا السؤال يرمي إلى خير النواة العيلية الآتية، هذا مع الاحتساب بسُلالة الأشخاص المسجلة في تشكليل الزواج والأسرة نفسه. إن السؤال في شأن الأبناء وتربيتهم مُرتبط ارتباطاً وثيقاً بالرضى الزواجي، بقسم المحبة والاحترام الزوجي، والأمانة حتى الموت. تقبُل الأبناء وتربيتهم، وهما اثنان من أهداف الأسرة الرئيسية، يتوقفان على طريقة التقيد بهذا التعهد. الأبوة والأمومة تمثلان مهمة ذات ميزة روحية بالإضافة إلى ميزتها الطبيعية؛ ففيهما تمر سلالة الشخص التي بدؤها الأبدي في الله، والتي يجب أن تقود إليه تعالى.
    من شأن سنة الأسرة، التي ستكون سنة صلاةٍ خاصة نُقيمها الأسر، أن توقظ الوعي عند كل أسرة لكل هذا، على وجهٍ جديد وعميق. كم من موضوعاتٍ كتابية تستطيع أن تُغذي هذه الصلاة! ولكن يجب أن يُجمع دائماً إلى أقوال الكتاب المقدس ذكر الأزواج ـ الوالدين الشخصي، وذكر الأبناء والأحفاد. فبسُلالة الأشخاص تصبح الشركة الزوجية شركة الأجيال. إن اتحاد الاثنين السري، الذي خُتم في التعهد المعقود أمام الله، يثبت ويترسخ في تعاقُب الأجيال. يجب أن يُصبح وحدة صلاة. ولكي يتمكن هذا الاتحاد السري من الإشعاع في سنة الأسرة، على وجهٍ معبر، لا بُد من أن تُصبح الصلاة عادةً مترسخة عند كل أسرةٍ في حياتها اليومية. والصلاة هي شكر، وحمدٌ لله، وطلب غفران، وتوسل ودعاء. ولصلاة الأسرة في كل مادة من هذه المواد مجالٌ واسع لمخاطبة الله. ولها أيضاً أمورٌ كثيرةٌ تقولها للبشر، ابتداءً بالشركة المتبادلة بين الأشخاص الذين تجمعهم روابط عيلية.
    "ما الإنسان حتى تذكره!" (مز 8 : 5) سؤال يتساءله صاحب المزامير: فالصلاة هي المجال الذي يذكر فيه الله الخالق والأب، على أ�

    القسم الثاني- "ما دام العريس معكم!"


    في قانا الجليل                                                                                                                                                                          
    18ـ في ذلك الزمان تحدث يسوع، أمام تلاميذ يوحنا، عن دعوة إلى عُرسٍ وعن حضور العريس في ما بين المدعوين: "ما دام العريس معهم" (متى 9 : 15). إنه كان يشير بذلك إلى كمال الصورة في شخصه، صورة الله ـ العريس، الواردة قبلاً في العهد القديم، والتي تكشف بوضوحٍ عن سر الله، كسر محبة.
    وعندما اتخذ يسوع صفة "العريس" كشف إذن جوهر الله وأكد حبه العظيم للإنسان. ولكن اختيار هذه الصورة يلقي الضوء، بطريقة غير مباشرة، على الطبيعة الحقيقية للحب الزوجي. في الواقع، إن لجوء يسوع إلى هذه الصورة يبين إلى أي حد تتجلى أبوة الله ومحبته في حب رجلٍ وامرأة يتحدان في الزواج. لذلك نجد يسوع، في بدء رسالته، في قانا الجليل، يشارك في وليمة عرس مع مريم وتلاميذه الأولين (أنظر يوحنا 2 : 1 ـ 11). إنه يظهر بذلك أن الحقيقة عن الأسرة كامنة في الوحي الإلهي وفي تاريخ الخلاص.
    في العهد القديم، وبالأخص عند الأنبياء، نجد عباراتٍ جميلة جداً عن حب الله: حبٍ كله اهتمامٌ مثل حب الأم لأولادها؛ حبٍ كله حنانٌ مثل حب الزوج لزوجته، ولكنه أيضاً ملؤه الغيرة؛ وهو ليس أولاً حباً يجازي، بل حبُ يصفح؛ حبُ يعطف على الإنسان كما يعطف الوالد على ابنه الضال فينشله من وهدة الهلاك ويُشركه في الحياة الإلهية. حبٌ يدهش: إنه جدةٌ لم يكن مجمل العالم الوثني يعرفها حتى ذلك الحين.
    في قانا الجليل، ظهر يسوع وكأنه رسول الحقيقة الإلهية عن الزواج، الحقيقة التي يمكن أن ترتكز عليها الأسرة البشرية، وقد وجدت فيها القدرة الكافية لمواجهة مصائب الحياة. ويسوع يعلن هذه الحقيقة بحضوره في عرس قانا، وباجتراحه أولى "عجائبه": الماء المحول خمراً.
    ويعلن أيضاً الحقيقة عن الزواج في حديثه مع الفريسيين، وفي شرحه أن الحب الذي هو من الله، الحب الحنون والزوجي، هو ينبوع متطلبات عميقة وجذرية. كان موسى أكثر تساهلاُ؛ فلقد أذن بأن يعطى كتاب طلاقٍ. ومن مناظرةٍ حادة، عندما تذرع الفريسيون بشريعة موسى، أجابهم يسوع بصراحة: "في البدء، لم يكن الأمر كذلك!" (متى 19 : 8). وذكرهم بأن الذي خلق الإنسان، خلقه ذكراً وأنثى، وأمر قائلاً: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه ويلزم امرأته، ويصيران كلاهما جسداً واحداً" (تكوين 2 : 24 ـ متى 19 : 5). وبكلٍ تناسقٍ منطقى يختتم المسيح كلامه قائلاً: "ومن ثم، فليسا هما اثنين بعدُ، بل جسدٌ واحد. وإذن، فما جمعه الله فلا يفرقه إنسانٌ!" (متى 19 : 6). وإذا اعترض الفريسيون متذرعين بالشريعة الموسوية، أجابهم: "إنه لقساوة قلوبكم، أذن لكم موسى أن تطلقوا نساءكم؛ ولكن، في البدء، لم يكن الأمر كذلك" (متى 19 : 8).
    يشير يسوع إلى "البدء"، إذ يجد في جذور الخليقة نفسها قصد الله الذي عليه ترتكز الأسرة، وبواسطتها كل تاريخ البشرية. إن حقيقة الزواج الطبيعية تصبح، بمشيئة المسيح، سراً حقيقياً من أسرار العهد الجديد، موسوماً بخاتم دم المسيح الفادي. أيها الأزواج ويا أيتها الأسر تذكروا بأي ثمنٍ "اشتريتم"! (أنظر 1 كو 6 : 20).
    إنه لمن الصعب بشرياً أن نتقبل ونحيا هذه الحقيقة الرائعة. وكيف نعجب من أن موسى انقاد لالتماسات مواطنيه، عندما نرى الرسل أنفسهم، لدى سماعهم أقوال المعلم، يجيبون: "إن كانت هذه حال الرجل مع امرأته، فالأولى له أن يتزوج!" (متى 19 : 10). ولكن لخير الرجل والمرأة، ولخير الأسرة والمجتمع بأسره، يؤكد يسوع ما شدد عليه الله منذ البدء. وفي الوقت عينه، ينتهز الفرصة ليُشيد بقيمة اختيار البتولية، من أجل ملكوت السماوات: هذا الاختيار يسمح أيضاً "بالاتلاد"، وإن يكن بطريقة أخرى. إن هذا الاختيار يشكل نقطة انطلاق الحياة المكرسة، والرهبنات والجمعيات الرهبانية في الشرق والغرب، وأيضاً نظام العزوبة في الكهنوت، وفقاً لتقليد الكنيسة اللاتينية. فليس من الصحيح إذن أنه "من الأولى أن لا يتزوج (الإنسان)!، ولكن محبة ملكوت السماوات يمكنها هي أيضا أن تحثنا على عدم الزواج (أنظر متى 19 : 12).
    يبقى الزواج، مع ذلك، الدعوة العادية للإنسان، وقد اختاره القسم الأكبر من شعب الله. وفي الأسر تتكون الحجارة الحية للبناء الروحي الذي يتحدث عنه الرسول بطرس (أنظر 1 بط 2 : 5). وأجساد الأزواج هي هيكل الروح القدس (أنظر 1 كو 6 : 19). وبما أن تناقل الحياة الإلهية يفترض تناقل الحياة البشرية، فمن الزواج إذن يولد ليس أبناء البشر فحسب، ولكن أيضاً، بفعل المعمودية، أبناء الله بالتبني الذين يحيون الحياة الجديدة التي نالوها من المسيح بواسطة روحه.
    وبهذه الطريقة، أيها الأخوات والإخوة المحبوبون، ويا أيها الأزواج والوالدون، إن العريس ما دام معكم. إنكم تعلمون أنه الراعي الصالح وتعرفون صوته. وتعلمون إلى أين يقودكم، وأنه يجاهد ليقتادكم إلى المراعي حيث تجدون الحياة وتجدونها بوفرة، وأنه يجابها الذئاب الضارية، وأنه على استعدادٍ دائم لانتشال نعاجه من أفواهها: كلِ رجلٍ وامرأة، كلِ ابنٍ وبنتٍ، كلِ عضوٍ من أعضاء أسَركم. وتعلمون أنه هو، الراعي الصالح، مستعدٌ أن يبذل حياته عن قطيعه (أنظر يوحنا 10 : 11).
    إنه يقودكم في طرقٍ ليست الطرق الوعرة والملأى بالفخاخ، طرق العديد من الإيديولوجيات الحديثة. إنه يردد الحقيقة الكاملة لعالم اليوم، كما عندما كان يتوجه إلى الفريسيين أو عندما كان يعلنها لرسله الذين هم بدورهم أعلنوها في العالم، للناس في أيامهم، يهوداً ويونانيين. كان التلاميذ يعون كل الوعي أن المسيح جدد كل شيء؛ أن الإنسان أصبح "خليقةً جديدةً": فليس بعدُ يهوديٌ ولا يونانيٌ، ليس عبدٌ ولا حرٌ، ليس ذكرٌ وأنثى، بل "واحدٌ" فيه (أنظر غل 3 : 28)، وقد توشح كرامة ابن الله بالتبني. يوم العنصرة، نال هذا الإنسان الروح المعزي، روح الحق، وهكذا بدأ شعب الله، الكنيسة، مقدمة سماءٍ جديدةٍ وأرضٍ جديدة (أنظر رؤ 21 : 1).
    في البدء تخوف الرسلُ من الزواج والأسرة، ولكن في ما بعد أصبحوا أشداء: فلقد فقهوا أن الزواج والأسرة يشكلان دعوةً تصدر عن الله نفسه، ورسالةً: رسالة العلمانيين. إنهما يُسهمان في تبديل وجه الأرض وتجديد العالم والخليقة والبشرية بأسرها.
    أيتها الأسر الحبيبة، عليكم أنتم أيضاً أن تتحلوا بالشجاعة وتكونوا على استعدادٍ دائمٍ لتشهدوا للرجاء الذي فيكم (أنظر 1 بطرس 3 : 15)، لأن الراعي الصالح غرسها في قلوبكم، بواسطة الإنجيل. يجب أن تكونوا على استعداد لاتباع المسيح نحو المراعي الواهبة الحياة، والتي هيأها هو بنفسه بواسطة السر الفصحي، سر موته وقيامته.
    لا تجزعوا من المخاطر! إن القدرات الإلهية لأقوى بكثير من مصاعبكم! وإن فعالية سر المصالحة، الذي دعاه بحقٍ آباء الكنيسة "المعمودية الثانية"، لهي أعظم بكثيرٍ من الشر العامل في العالم. والطاقة الإلهية الكامنة في سر التثبيت، الذي يعمل على إشرافة نعمة المعمودية، لها وقعٌ أعظم من الفساد المنتشر في العالم. وقدرةُ الإفخارستيا بخاصةٍ لا مثيل لعظمتها.
    الإفخارستيا سرٌ عجيبٌ بالحقيقة. في هذا السر، وهب لنا المسيح ذاته مأكلاً ومشرباًً وينبوع قوة مخلصة. وهب لنا ذاته كي تكون لنا الحياة، وتكون بوفرة (أنظر يوحنا 10:10): تلك الحياة التي فيه والتي منحناها بعطية روحه، بقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث. في الواقع، إنها لنا الحياة التي منه. إنها لكم، أيها الأزواج والوالدون والأسر! ألم يرسم الإفخارستيا في إطار عيلي، في أثناء العشاء الأخير؟ عندما تلتقون للأكل، وأنتم متحدون في ما بينكم، فإن المسيح قريبٌ منكم. وأكثر من ذلك، إنه العمانوئيل، الله معنا، عندما تتقدمون من المائدة الإفخارستية. ومن الممكن ألا نعرفه، كما حدث في عماوس، إلا عند "كسر الخبز" (أنظر لوقا 24 : 35). ويصدف أيضاً أن يقف عند الباب ويقرع، بانتظار أن يُفتح له الباب فيدخل ويتعشّى معنا (أنظر رؤ 3 : 20).
    إن عشاءَه الأخير والكلمات التي تفوه بها حينئذٍ تحفظ كلّ قدرة ذبيحة الصليب وحكمتها. وليس هناك من قدرةٍ أخرى ومن حكمةٍ أخرى نستطيع بهما أن نخلص، أو أن نُسهم في خلاص الآخرين. وليس هناك من قدرةٍ أخرى ومن حكمةٍ أخرى تستطيعون بهما، أنتم أيها الوالدون، أن تربّوا أولادكم، وتربّوا أنفسكم أيضاً. لقد تثبّتت قدرة الإفخارستيا التربويّة، عبر الأجيال والقرون.
    إن الراعي الصالح حاضرٌ معنا في كل مكان. ومثلما كان في قانا الجليل العريس ما بين هذين العروسين اللذين تبادلا العطاء مدى الحياة، كذلك الراعي الصالح هو اليوم معكم سبب رجاءٍ، وقوةً للقلوب، ومنبع حماسٍ دائم التجدّد وعلامة انتصارٍ "لحضارة الحبّ". إن يسوع، الراعي الصالح، يردّد لنا: لا تخافوا، أنا معكم! "ها أناذا معكم كل الأيام، إلى انقضاء الدهر (متى 28 : 10). أين مصدر هذه القوة؟ من أين لنا اليقين أنك معنا، حتى إذا قتلوك، يا ابن الله، ومتّ كأيّ إنسان؟ أين مصدر هذا اليقين؟ يقول الإنجيليّ: "أحبّهم إلى الغاية" (يوحنا 13 : 1). أنت إذن تحبنا، أنت الأول والآخر، والحيّ؛ لقد كنت ميتاً والآن أنت حيٌّ إلى دهر الدهور (أنظر رؤ 1 : 17 – 18).

    السرّ العظيم
    19- يختصر القديس بولس قضيّة الحياة العيليّة بعبارة "إن هذا السرّ لعظيم!" (أنظر أفسس 5 : 32). عندما يكتب في رسالته إلى الأفسسيّين عن هذا "السرّ العظيم"، وإن كانت تعود جذوره إلى سفر التكوين وإلى كلّ تقليد العهد القديم، فإنه يقدّم تنظيماً جديداً سوف تتوسّع فيه سلطة الكنيسة التعليميّة في ما بعد.
    تعلّم الكنيسة أن الزواج، كسرّ توافقٍ بين زوجين، هو "سرٌّ عظيم"، لأن فيه يعبّر عن حبّ المسيح الزوجيّ لكنيسته. كتب القديس بولس: "أيها الرجال، أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح الكنيسة: لقد بذل نفسه لأجلها ليقدّسها ويطهرها بغسل الماء وبالكلمة" (أفسس 5 : 25 – 26). يتحدّث الرسول هنا عن المعموديّة التي تفصّلها الرسالة إلى الرومانييّن بإسهاب، واصفةً إياها كمشاركة في موت المسيح لنيل حياته (أنظر روم 6 : 3 – 4). بهذا السرّ يولد المؤمن إنساناً جديداً، لأن للمعمودية السلطان بأن تمنح حياةً جديدة، حياة الله نفسها. إن سرّ الإله – الإنسان يختصر، نوعاً ما، في الحدث العماديّ. يقول القديس إيريناوس لاحقاً، ومعه عددٌ من آباء الكنيسة في الشرق والغرب: "إن يسوع المسيح ربنّا، ابن الله العليّ، صار ابن الإنسان لكي يصبح الإنسان بدوره ابن الله" (44).
    إن العريس إذن هو الله نفسه صار إنساناً. في العهد القديم، يعتلن الرب عريساً لإسرائيل الشعب المختار: إنه عريس حنون ومتطلب، غيورٌ وأمين. إن كل خيانات إسرائيل وهروبه وعباداته الأصنام التي وصفها الأنبياء بكل مأساوية وتعبيرية لم تستطع أن تطفئ الحب الذي به الله ـ العريس "أحب إلى الغاية" (أنظر يوحنا 13 : 1).
    إن تثبيت وتمام الشركة الزوجية بين الله وشعبه قد تحققنا في المسيح، في العهد الجديد. فالمسيح يؤكد لنا أن العريس ما دام معنا (أنظر متى 9 : 15). إنه معنا جميعاً، إنه مع الكنيسة. والكنيسة تصبح عروساً: عروس المسيح. وهذه العروس التي تتكلم عنها الرسالة إلى الأفسسيين حاضرةٌ في كل معمد، وهي مثال شخص حاضرٍ تحت نظري عريسه. إنه "أحب الكنيسة: لقد بذل نفسه لأجلها... (إذ كان يريد) أن يزفها إلى نفسه كنيسةً مجيدةً، لا كلف فيها ولا غضنٌ ولا شيءٌ مثل ذلك، بل مقدسةٌ، ولا عيب فيها" (أفسس 5 : 25، 27). إن الحب الذي أحب به العريس الكنيسة إلى الغاية، هو من العظمة بقدرٍ حتى أنها تتجدد دوماً في القداسة بقديسيها، وإن كانت لا تزال بعد كنيسة خطأة. إن الخطأة "والعشارين والزواني" مدعوون هم أيضاً إلى القداسة، على حد ما يصرحه المسيح نفسه في الإنجيل (أنظر متى 21 : 31). إنهم جميعاً مدعوون إلى أن يصبحوا الكنيسة الممجدة والمقدسة والطاهرة. "كونوا قديسين، لأني أنا قدوس" (لا 11 : 44 ـ 1 بط : 16).
    تلك هي أسمى أبعاد "السر العظيم"، والمعنى العميق للموهبة السرية في الكنيسة، وأبلغ معنى للمعمودية والإفخارستيا. إنها ثمار محبة العريس الذي أحب إلى الغاية، حباً يتوسع على الدوام ويمنح البشر مشاركة دائمة النمو في الحياة الإلهية.
    بعد أن قال: "أيها الرجال، أحبوا نساءكم" (أفسس 5 : 25)، يضيف القديس بولس حالاً، وبقوةٍ أعظم: "فكذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم كأجسادهم الخاصة؛ من أحب امرأته، أحب نفسه. فإنه ما من أحد أبغض قطُ جسده الخاص؛ بل إنما يغذيه، ويعتني به، كما يفعل المسيح بالكنيسة: أولسنا أعضاء جسده؟" (أفسس 5 : 28 ـ 30). ويحرض الرسول الزوجين قائلاً: "كونوا خاضعين بعضكم لبعضٍ في مخافة المسيح" (أفسس 5 : 21).
    ذلك هو، بالتأكيد، تعبيرٌ جديدٌ عن الحقيقة الأبدية الخاصة بالزواج والأسرة، على ضوء العهد الجديد. والمسيح أوحى بها في الإنجيل، بحضوره في قانا الجليل، وبذبيحته على الصليب، وبأسرار كنيسته. وهكذا يجد الزوجان في المسيح مرجعاً لحبهما الزوجي. وفي حديثه عن المسيح عريس الكنيسة، يستند القديس بولس بطريقة مماثلة إلى الحب الزوجي، ويعود إلى سفر التكوين: "لذلك يترك الرجل أباه وأمه، ويلزم امرأته، فيصيران كلاهما جسداً واحداً" (2 : 24 ـ أفس 5 : 31). هذا هو "السر العظيم" المتمثل في الحب الأزلي الكائن منذ بدء الخليقة، والمعلن في المسيح، والذي عُهد به إلى الكنيسة. ويردد الرسول: "إن هذا السر لعظيم: أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة" (أفس 5 : 32).
    لا يمكننا إذن أن نفهم الكنيسة كجسدٍ سري للمسيح، وكعلامةِ عهدٍ بين الإنسان والله في المسيح، وكسرٍ شامل للخلاص، دون أن تستند إلى "السر العظيم"، في علاقته مع خلق الإنسان، ذكراً وأنثى، ومع دعوة الاثنين إلى الحب الزوجي، إلى الأبوة والأمومة. إن "السر العظيم"، الذي هو الكنيسة والبشرية في المسيح، لا وجود له من دون "السر العظيم" الذي يعبر عنه بكون الاثنين يصيران "جسداً واحداً" (أنظر تك 2 : 24 ـ أفس 5 : 31 ـ 32)، أي في حقيقة واقع الزواج والأسرة.
    إن الأسرة نفسها هي سر الله العظيم. إنها، "ككنيسة بيتية"، عروس المسيح. إن الكنيسة الجامعة، و فيها كلَ كنيسة خاصة، تظهر، أكثر مباشرةً، عروسةً للمسيح في "الكنيسة البيتية" وفي الحب المعاش فيها: الحب الزوجي والحب الأبوي والأمومي، والحب الأخوي، وحب جماعة من الأشخاص والأجيال. وهل من الممكن أن نتصور الحب البشري بدون العريس، وبدون الحب الذي هو، أولاً، أحب به إلى الغاية؟ والزوجان، هما أيضاً، يستطيعان أن يحبا "إلى الغاية"، إذا ما شاركا في هذا الحب و هذا "السر العظيم": فإما يشاركان في هذا الحب، وإما فهما لا يفقهان في العمق ما هو الحب وكم متطلباته هي جذرية. وفي هذا، بلا شك، خطرٌ داهم وفادح.
    إن تعليم الرسالة إلى الأفسسيين يدهش بعمقه وسلطته الخُلقية. بإشارته إلى الزواج ـ ومن ثم إلى الأسرة ـ كأنه "السر العظيم"، بالنسبة إلى المسيح والكنيسة، يعود الرسول بولس فيردد مرة أخرى ما سبق وقاله للأزواج: "... فليُحبَ كل واحد منكم امرأته كنفسه"، ويضيف قائلاً: "ولتهب المرأة رجلها" (أفس 5 : 33) الهيبة والاحترام لأنها تحب وتعرف أنها محبوبة. وبفضل هذا الحب، يصبح الزوجان عطية متبادلة. في الحب يكمن الاعتراف بكرامة الآخر الشخصية وبفرادته التي لا مثيل لها: في الواقع، إن الله اختار كلاً منهما، بصفته كائناً بشرياً، من أجل ذاته (45)، ما بين خلائق الأرض. ومع ذلك، فإن كل واحد بفعل إرادةٍ واع ومسؤول يهب ذاته هبةً حرةً للآخر وللأولاد الذين يمنحهما إياهم الرب. لذلك يتابع القديس بولس تحريضه، رابطاً إياه بطريقة معبرة بالوصية الرابعة: "وأنتم، أيها الأولاد، أطيعوا والديكم، في الرب: فإن ذلك عدلٌ. "أكرم أباك وأمك" ـ تلك هي الوصية الأولى التي أنيط بها وعدٌ ـ : "لكي تصيب خيراً، وتطول أيامك على الأرض". وأنتم، أيها الآباء لا تُحنقوا أولادكم، بل ربوهم بالتأديب والموعظة، في الرب" (أفس 6 : 1 ـ 4). فالرسول، إذن، يرى في الوصية الرابعة التعهد الضمني بالاحترام المتبادل بين الرجل والمرأة، وما بين الوالدين والأولاد، ويجد فيها هكذا مبدأ التماسك العيلي.
    إن مجمل تعليم القديس بولس الرائع، بالنسبة إلى "السر العظيم"، يبدو، نوعاً ما، وكأنه خلاصة، أو "قمة" التعليم عن الله والإنسان الذي وجد كماله في المسيح. إنه لمن المؤسف أن يكون الفكر الغربي، مع انتشار العقلانية الحديثة، قد ابتعد شيئاً فشيئاً عن هذا التعليم. إن الفيلسوف الذي أطلق مبدأ "أنا أفكر، إذن أنا موجود" "Je pense, donc je suis"="cogito, ergo sum" : انقاد إلى المفهوم الحيدث للإنسان الذي يتميّز بالطابع الثنائي. إنه لمن خواصّ العقلانية إبراز التناقض عند الإنسان، بطريقة جذريّة، ما بين الروح والجسد، وما بين الجسد والروح؛ فيما، على العكس من ذلك، الإنسان شخصٌ في وحدانيّة جسده وروحه (46). لا يمكن البتّة أن يُقتصر الجسد على مادّة صرف: إنه جسدٌ "مروحنٌ"، كما أن الروح باتحاده الكامل بالجسد يمكن أن يُعتبر روحاً "متجسداً". إن أغنى مرجع أصيل لمعرفة الجسد هو الكلمة صار جسداً: فالمسيح كشف الإنسان للإنسان (47). إن تأكيد المجمع الفاتيكاني الثاني هذا هو، نوعاً ما، الجواب الذي طالما انتظره العالم والذي أعلنته الكنيسة في وجه العقلانيّة الحديثة.
    يكتسي هذا الجواب أهميّة قصوى لفهم الأسرة، بالأخصّ في إطار الحضارة الحديثة التي يظهر – كما سبق وقلنا – أنها رفضت، في مناسبات عدّة، أن تكون "خضارة الحبّ". في العصر الحديث، قطع تقدّم معرفة عالم المادّة وعلم النفس البشريّة أيضاً أشواطاً شاسعة. ولكن في ما يخصّ البُعد الأكثر عمقاً، البُعد الماورائي "الميتافيزيقيّ)، يبقى إنسان اليوم، في القسم الأكبر من ذاته، كائناً يجهل ذاته؛ وبالتالي، تبقى الأسرة، هي أيضاً، واقعاً مجهولاً. وسبب ذلك، هو التباعد عن ذاك "السرّ العظيم" الذي يتحدّث عنه الرسول.
    لقد نتج عن مبدأ الفصل بين الروح والجسد في الإنسان، تأكيد الميل إلى اعتبار الجسد البشري والتعامل معه، ليس حسب النظُم القائمة عل شَبَهه مع سائر الأجسام الموجودة في الطبيعة، تلك الأجسام التي يستخدمها الإنسان مادّةً في نشاطه لإنتاج الخيرات الاستهلاكية. ولا يغرب للحال عن بال أحد أن تطبيق مثل هذه المعايير على الإنسان يخبئ بالحقيقة في طيّاته مخاطر جمّة. فإنه عندما يُعتبر الجسد الإنسانيّ مجرداً من الروح والفكر، ويُستخدم كسلعةٍ، على مستوى أجسام الحيوانات – وهذا ما يحصل فعلاً في المعالجات والاختبارات على الأجنّة والحمائل – ننقاد حتماً إلى انحراف خُلقيّ فظيع.
    وأمام مثل هذه النظرة والبُعد الإنسانيّ، يحتّم على الأسرة أن تعيش خبرة مانويّة جديدة، يوضع فيها الجسد والروح في تناقضٍ حذريّ: فالجسد لا يحيا بالروح، والروح لا يحييه الجسد. وبذلك يتوقف الإنسان عن الحياة كشخصٍ وكفردٍ. وبالرغم من النوايا والتصريحات المضادّة، يصبح الإنسان فقط شيئاً. وعلى هذا النحو، مثلاً، تعمل هذه الحضارة المانويّة – الجديدة على اعتبار المفهوم الجنسيّ البشريّ حقل اختباراتٍ واستثمار أكثر منه واقع التعجّب الأوليّ الأصيل الذي حدا آدم، في بدء الخليقة، على الصراخ عند رؤيته حوّاء: "هذه عظمٌ من عظامي، ولحمٌ من لحمي" (تك 2 : 23). إنه التعجب نفسه الذي نستشعر صداه في كلمات "نشيد الأناشيد": "قد خلبتِ قلبي يا أختي العروس، قد خلبتِ قلبي بإحدى عينيك..." (4 : 9). ما أبعد بعض المفاهيم الحديثة من مفهوم الوحي الإلهيّ العميق للرجولة والأنوثة! وهذا الوحي نفسه يكشف لنا في المفهوم الجنسيّ البشريّ غنىً للشخص يجد كماله الحقيقي في الأسرة، ويعبّر عن رسالته الفريدة ودعوته في البتوليّة والتبتّل من أجل ملكوت الله. إن العقلانية الحديثة لا تطيق السرّ. إنها ترفض سرّ الإنسان، رجلاً وامرأة، ولا تقرّ أن كمال الحقيقة عن الإنسان قد أوحى به يسوع المسيح. وبالأخصّ، إن العقلانية لا تحتمل "السرّ العظيم" الذي أعلنته الرسالة إلى الأفسسيّين، وهي تناهضه بشكل جذريّ. وإذا ما هي اعترفت، في إطارٍ من الألوهية الغامضة، بإمكانية وحتى بضرورة كائنٍ سامٍ أو إلهيّ، فهي ترفض بشدّة مبدأ إله صار إنساناً ليفتدي الإنسان. لا يمكن العقلانيّة أن تتخيّل بأن الله هو الفادي، وأقلّ من ذلك بأن يكون "العريس"، مصدر الحبّ الزوجي البشريّ، الأول والوحيد. والعقلانيّة تفسّر الخليقة ومعنى الوجود البشريّ بطريقة مغايرة جذريّاً. وإذا ما حرمنا الإنسان من التطلّع إلى إله يحبّه ويدعوه، بالمسيح، إلى أن يحيا فيه ومعه؛ وإذا ما مُنعت الأسرة من إمكانية المشاركة في "السرّ العظيم"، فماذا يبقى إذن، يا تُرى، سوى البعد الزمنيّ للحياة؟ وتبقى الحياة الزمنية مسرحاً للصراع على البقاء، وللسعي الضئيل للربح، الربح الاقتصاديّ قبل كل شيء.
    إن "السر العظيم"، سرّ المحبة والحياة، الذي مبادئُه في الخليقة والفداء، والذي المسيح – العريس كافله، قد فقد جذوره العميقة، في الذهنية المعاصرة. إن الأخطار تتهدّده فينا وما حولنا. علَّ "سنة الأسرة" التي تحتفل بها الكنيسة، تصبح للأزواج فرصةً سانحةً لإعادة اكتشاف هذا السرّ وتوطيد دعائمه بقوة وشجاعة وحماس! 

    أمّ الحب النبيل                                                                                                                                                                    
    20- يبدأ تاريخ "الحبّ النبيل" عند البشارة، بالعبارات الرائعة التي وجّهها الملاك إلى مريم، المدعوّة لأن تصبح أمّ ابن الله. وبجواب مريم: "فليكن لي بحسب قولك!" (لوقا 1 : 38)، ذاك الذي هو "إلهٌ من إله، نورٌ من نور" صار ابن الإنسان؛ ومريم هي أمّه، فيما تلبث عذراء "لا تعرف رجلاً" (أنظر لوقا 1 : 34). وبما أنها الأم – العذراء، أصبحت مريم �