عظمة دعوتنا للطوباوية اليصابات للثالوث

  • مقدمة
  • الرسالة


  • مقدمة

    مقدمة

    وجَّهت أليصابات للثالوث هذا "البحث الروحي"، الذي كتبته في أيلول، سنة 1906 إلى صبيّة من ديجون، هي فرانسواز دى سوردون، وكانت في التاسعة عشرةَ من عمرها. وكانت تربطها، سابقاً، صداقةٌ طويلة بإليصابات، تشهد عليها ست وعشرون رسالة كتبتها إليصابات إلى فرنسواز على مدى ثماني سنوات.

    كانت إليصابات ترى ذاتها في الصبيّة فرانسواز ، مع أنها كانت تكبرها بسبع سنوات. وهذا ما جعل صداقتها لفرانسواز تتَّسم بطابع أمومي. وحين أصبحت كرملية، سمَّت نفسها عن طيبة خاطر "الأم الصغيرة" لفرانسواز. وكان شديداً تَعَلُّقُ كُلٍّ منهما بالأخرى.

    في هذا "البحث الروحي"، أو في هذه "الرسالة الطويلة"، تدفُق نبرتان: نبرة تيقّظ، ونبرة تقشّف. وقد أكّدت كتابةُ إليصابات، في هذه المرحلة، إرهاقها الجسدي الكبير. كانت تشعر بأنها ستنهار في كل لحظة. وقد وصفت رسالتها الطويلة هذه، باليوميات. وهي تشكِّلُ تكملةً جيّدة "للسماء في الإيمان".



    الرسالة

    ي. م + ي. ت

    1- ها هي "صابات" أخيراً، تمسك بقلمها وتجلس إلى جانب فرامبواز العزيزة! أقول مع قلمها، لأن المؤانسة من القلب إلى القلب قد تحقَّقت منذ مدة طويلة، أليس كذلك؟ وسنبقى، هكذا، نحن الاثنتين منصهرتين. كم أحبّ مواعيدنا المسائية، كأنها تمهيدٌ لتلك الشركة التي ستتمّ بين نفسينا، من السماء إلى الأرض! يبدو أنني أحنو عليكِ كالأم على طفلها المفضّل: أرفع عينيّ، وأنظر إلى الله، ثم أُخفضُهُما عليكِ وأعرِضك لأشعّة حُبِّه. فرامبواز، لا أقول له كلاماً من أجلك، لكنه يفهمُني فهماً أفضل ويؤثر صمتي. يا طفلتي العزيزة، بودّي أن أكونَ قديسةً حتى أساعدَك منذ الآن على الأرض ، بانتظار أن أفعل ذلك في السماء. كم أتمنّى أن أتألم لكي أحصلَ لك على نعم القوة التي تحتاجين إليها!

    2- أريد أن أجيب عن أسئلتك. لنتطرَّق إلى موضوع التواضع أولاً. لقد قرأتُ عن هذا الموضوع في الكتاب([1]) الذي حدَّثتكِ عنه، صفحاتٍ رائعة. يقول المؤلف الورع: لا شيء يبلبل المتواضع الذي يمتلك "السلامَ المنيع، لأنه اندفع في لجةٍ من نوع لا يستطيع أحدٌ أن يذهبَ للبحث عنه فيها". ويقول أيضاً : إنَّ المتواضع يجد مذاق حياته الأفضل في الإحساس بعجزه تجاه الله. صغيرتي فرامبواز ؛ ليست "الكبرياء" شيئاً يمكن القضاء عليه بضربة سيف حاسمة. إن بعض الأفعال المتواضعة الشجاعة، كالتي نقف عليها في حياة القديسين، تصيب الكبرياء بضربةٍ إن لم تكن قاتلة فهي على الأقل تضعفها كثيراً. لكن، وعدا ذلك، إنما يجب العمل على إماتتها كلَّ يوم! كان القديس بولس يصرخ:"أواجه الموت كل يوم" (1قورنتس15/31).

    3- يا فرامبواز، إنَّ هذا التعليم عن الموت عن الذات، الذي هو، مع ذلك، الشريعة لكل نفسٍ مسيحية منذ أن قال المسيح: "من أراد أن يتبعني فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (متى16/24)، التعليم هذا، إذاً، الذي يبدو صارماً جداً، هو ذات عذوبة لذيذة عندما نَنظر إلى خاتمة هذا الموت الذي هو حياة الله الموضوعة مكانَ حياتنا، حياة الخطيئة والشقاء. هذا ما كان القديس بولس يريد قولَه عندما كتب: "إخلعوا الإنسان القديم والبسوا الإنسان الجديد حسب صورة الذي خلقه" (قولسي3/9-10). وهذه الصورة هي الله نفسه. هل تتذكَّرين تلك الارادة التي أفصحَ عنها بقوة في يوم الخلق: "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا" (تكوين1/26)؟ آه ! أترين، لو ضاعفنا التفكير في أصول نفسنا لبدت لنا الأشياءُ الأرضية تافهةً جداً ([2])، لدرجة لا نملك معها إلا الاحتقار لها. وكتب القديس بطرس في إحدى رسائله: "إننا جُعلنا شركاء في الطبيعة الإلهية (2 بطرس1/4). وأوصى القديس بولس: "أن نحفظ حتى النهاية هذا البدءَ من كيانه الذي أعطانا إياه" (عبرانيين 3/14).

    4- يبدو لي أن النفسَ الواعية لسموِّها تدخل "حرية ابناء الله المقدسة" (رومية8/21)، التي يتكلّم الرسول عليها، وهذا يعني أنها تتجاوز كلَّ شيء بل تتجاوز ذاتها. ويبدو لي أن النفسَ الأكثر حرية هي أكثرها نسياناً لذاتها. ولو سُئلتُ عن سرِّ السعادة لقلت: لا نحسبْ حساباً لذاتنا ولْننكرها في كلِّ حين. تلك طريقةٌ حسنة لقتل الكبرياء: نتمكّن منها بالجوع! أترين، إن الكبرياء هي حب ذاتنا. لا بدّ، إذاً، من أن يكون حُبُّ الله من القوة بحيث يُطفئ كل حُبٍّ آخر فينا. يقول القديس أغسطينوس: توجد فينا مدينتان: مدينة الله ومدينة الأنا. فبقدر ما تكبر الأولى بقدر ذلك تزول الثانية. والنفس التي تحيا في الإيمان تحت نظر الله، والتي لها تلك "العين السليمة" التي تكلَّم المسيح عليها في الإنجيل (متى6/22)، تعني نقاوةُ النية، التي لاتتجِّه إلاَّ إلى الله؛ فتلك النفس، على ما يبدو لي، تحيا أيضاً في التواضع، فتعرف كيف تعترف بعطاياه لها لأن التواضع هو الحقيقة. والنفس لا تنتحل شيئاً لذاتها، بل تُعيد كل شيء إلى الله، كما كانت تفعل العذراء القديسة.

    5- فرامبواز، كلُّ انفعالات الكبرياء التي تموج في داخلك، لا تتحوّل أخطاءً إلاَّ حين تكون الإرادةُ شريكةً في ذلك! وبدون اشتراكها، يمكنكِ أن تتألمي كثيراً ، لكنكِ لا تُسيئين إلى الله. فهذه الأخطاء التي تصدُر عنكِ بدون أن تفكّري في ارتكابها، كما تقولين لي، تدلُّ، بدون شك، على أساسٍ من الحُبٍّ الذاتي. غير أن هذا، يا حبيبتي المسكينة، يشكّل نوعاً ما، جزءاً منا... فما يطلبه الله منكِ هو ألاّ تتوقَّفي أبداً، وعمداً، عند أيِّ فكرة كبرياء، وألا تقومي أبداً بعملٍ ناتج عن هذه الكبرياء بالذات، لأن هذا لا خيرَ فيه. وعلاوة على ذلك، إذا اكتشفتِ أحدَ هذه الأشياء فيكِ، فلا تتخاذلي، فإنما الكبرياء تثور أيضاً، فعليك أن تبسطي عجزَك عند قدمي المُعلِّم كما فعلت مريم المجدلية، وتسأليه أن يخلِّصك. فهو يحبّ كثيراً رؤيةَ نفسٍ تعترف بعجزها؛ عندئذٍ وكما كانت تقول قديسة كبيرة تَلتقي لجةُ عظمة الله الفائقة وجهاً لوجه مع لجة عدم مخلوق، ويحضن الله هذا العدم.

    6- يا طفلتي العزيزة، ليس من الكبرياء في شيء أن تفكّري في أن ترفضي الحياةَ السهلة؛ أعتقد، حقاً، أن الله يريد أن تُمضي حياتك في فُلكٍ نتنشَّقُ فيه الهواء الإلهي. آه، أتَرين، أنا أشعر بشفقةٍ شديدة على النفوس التي لا تحيا أرفع من الأرض وتفاهاتها. أعتقد أنها مستَعبَدَة وأريد أن أقول لها: "إخلعي نيرَ العبودية التي تُثقل عليك. ماذا تفعلين بهذه السلاسل التي تقيِّدك إلى ذاتك وإلى أشياء أقل من ذاتك ؟يبدو لي أن السعداء في هذا العالم هم الذين لهم من احتقار الذات ونسيانها ما يجعلهم يختارون الصليب نصيباً لهم!. حين نعرف أن نضع الفرح في الآلام، فيا له من سلام لذيذ !

    7- "أُتمُّ في جسدي ما نقصَ من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (قولسي1/24). هوذا ما كان يحقِّق سعادةَ الرسول! هذه الفكرة تلاحقني وأعترف لكِ أنني أشعر بفرحٍ داخلي وعميق حين أفكر في أنَّ الله اختارني لكي أشاركَ مسيحَه آلامه. هذا، ويظهر لي أن درب الجلجلة هذا، الذي أتسلّقه كلَّ يوم، هو بالأحرى طريقُ السعادة! ألم تَري بعضَ الصور التي تجسِّد الموتَ يحصد بمنجله؟ حسناً، تلك حالتي؛ يبدو لي أنني أشعر بالموت يُتلفني بهذه الطريقة .. وهو أحياناً،صعب الاحتمال بالنسبة إلى الطبيعة البشرية. وأؤكّد لكِ أنني لو بقيت على هذه الحالة، لما أحسستُ إلاَّ بجُبني في الآلام ... لكن هذه نظرةٌ بشرية! ثم إني بسرعة أفتح عينَ نفسي على نور الإيمان؛ وهذا الإيمان يقول لي إنه الحبّ الذي يُتلفني ويُذيبني ببطء، وفرحي عامر وأسلّم إليه ذاتي كفريسة.

    8- فرامبواز، أعتقد إنه لبلوغ النفس الحياةَ المثالية، يجب أن نحيا في ما هو فوق الطبيعة. يعني ألا نتصرَّف طبيعياً أبداً. يجب الأخذ بعين الاعتبار أن الله هو في صميم ذاتنا وأن نتوجَّه معه نحو كلِّ شيء. عندئذ لن نكونَ تافهين أبداً حتى عندما نقوم بأبسط الأعمال، لأننا لا نحيا في الأشياء بل نتجاوزها. إن نفساً فوطبيعية لاتتعامل مع الأسباب الثانية، على الإطلاق، وإنما تتعامل مع الله فقط. آه! ما أبسطَ ما تكون حياتُها، وما أشدَّ اقترابها من حياة الأرواح الطوباوية، وكم هي حرّة من ذاتها ومن جميع الأشياء! وكلُّ شيء بالنسبة إليها يقتصر على الوحدة، وهو "الأوحد الضروري" (لوقا 10/42) الذي تكلّم المُعلِّم عليه مع المجدلية. عندئذ تكون النفس كبيرةً حقاً وحُرّة حقاً، لأنها حبسَت إرادتَها في إرادة الله.

    9- عزيزتي فرمبواز، حين نتأمل في ما قضى الله لنا به منذ الأزل، تبدو الأشياء المرئية لنا في غاية الحقارة... فأصغي إلى القديس بولس يقول: "الذين عرفهم الله بسابق علمه، سبق أن قضى بأن يكونوا على مثال صورة ابنه (رومية8/29)

    وهذا ليس كل شيء؛ بل سترين، يا صغيرتي، أنكِ من عداد المعروفين! "والذين عرفهم دعاهم". إنما العماد جعلَكِ ابنةً بالتبني (رومية8/15)، وخَتمك بخاتم الثالوث الأقدس! "والذين دعاهم برَّرهم أيضاً": كم من مرة كنت كذلك بواسطة سرِّ التوبة وبجميع لمساتِ الله في نفسك، حتى بدون أن تكوني واعيةً لذلك!

    والذين برَّرهم مجَّدهم أيضاً. هذا هو ما ينتظركِ في الأبدية! لكن تَذَكَّري أن درجة مجدنا ستكون درجة النعمة التي سيجدنا الله فيها لحظة الموت؛ فاسمحي له أن يُكملَ فيكِ عملَ ما قضى به منذ الأزل، ولهذا أصغي مرة أخرى إلى القديس بولس، يعطيكِ برنامجَ حياة.

    10- "سيري في يسوع المسيح ، متأصِّلةً فيه ومؤسَّسةً عليه ومعتمدةً على الإيمان، وناميةً بالمسيح بفعل النعمة (قولسي2/6-87). نعم، يا ابنة نفسي وقلبي الصغيرة، سيري في يسوع المسيح: فيلزمك هذا الطريق الواسع، لأنك لم توجدي لدروب الأرض الضيقة! تأصَّلي فيه، ومن أجل ذلك اقتلعي نفسك من نفسك، أو إعملي كل شيء، أعني: كأنك تُنكرين ذاتَك في كل مرة تلتقين نفسك. كوني مُؤسَّسةً على يسوع، وعلى علوٍّ شاهق فوق كلِّ ما يحدث، حيث كلًُّ شيء طاهر، وكلُّ شيء مُشعّ.

    11- أُثبُتي في الإيمان، أي لا تعملي إلاَّ على ضوء الله الساطع، ولا تعملي أبداً تبعاً لانطباعك وخيالك. آمني بأنه يحبّكِ ويريد مساعدتكِ بذاته في خضمِّ الصراعات التي يجب عليك خوضُها. آمني بحبّه، بحبّه الشديد (أفسس2/4)، كما يقول القديس بولس: غَذِّي نفسَكِ بأفكار الإيمان العظمى التي تكشف لنفسك عن كلِّ غناها وعن الغاية التي من أجلها خلق الله نفسكِ! إن عشت قي هذه الأشياء فلن تكون تقواك هَوَساً انفعالياً، كما تخشين، بل ستكون تقوى حقيقية. إن الحقيقة، حقيقةُ الحبّ، لرائعةٌ جدّاً: "أحبَّني وجاد بنفسه من أجلي (غلاطية2/20)، ها هوذا، يا ابنتي الصغيرة، ما يعني أن تكوني حقيقية.

    12- ثم أخيراً، آمني بفعل الشكر. هذه هي الكلمة الأخيرة في البرنامج، وليست إلا نتيجتَه: إذا سرتِ مُتأصِّلةً في يسوع المسيح وثابتةً في إيمانك، فستحيَين في فعل الشكر. يا لَمَودّة أبناء الله! أسأل ذاتي كيف أن النفس التي سَبَرَت الحبِّ القائم في قلب الله من أجلها، يمكنها ألاَّ تكون فرحة دائماً في كلِّ عذاب وكلِّ ألم. تَذكَّري أنّه "اختارك فيه قبل إنشاء العالم لتكوني نقيةً وبلا عيب في حضوره، في الحبّ (أفسس1/4)، وهذا ما يقوله القديس بولس أيضاً؛ ولذلك، لا تخافي من الصراع والتجربة فالرسول كان يصرخ: "لأنني عندما أكون ضعيفاً أكون قويّاً، لأن قوة يسوع المسيح تحلّ فيَّ(1قورنتس 12/10-9).

    13- تُرى بما ستفكِّر أُمُّنا المكرَّمة، إذا ما وقعت عيناها على هذه اليومية؟ لم تعد تسمح لي بالكتابة لأني في حالة ضعفٍ شديد، وأحسّ في كل لحظة بقواي تخور. قد تكون هذه الرسالة الأخيرة من صديقتك صابات. لقد احتاجت إلى أيام كثيرة كي تكتبها إليكِ، وهذا ما يفسّر عدم ترابطها. وهذا المساء، ينقُصنـي العزم على ترككِ. فأنا في عزلة: إنها السابعة والنصف مساءً، والجماعة في الفرصة... وأنا، أظنُّني قد صرت في السماء منذ قليل ضمن حجرتي الصغيرة، وحيدةً معه وحده، حاملةً صليبي مع مُعلِّمي. إنّ سعادتي، يا فرامبواز، تكبر بدرجة وجعي! لو تعرفين أيَّ نكهة نتذوّقها ونحن نتجرّع الكأسَ الذي أعدَّها الآبُ السماوي!

    إلى اللقاء، يا فرامبواز المحبوبة، لم أعد استطيع المتابعة. وفي صمت مواعيدنا، ستحزرين، وستفهَمين ما لم أقله لكِ. أعانقك، وأحبّك كما تفعل أمٌّ مع صغيرها.

    إلى اللقاء، يا صغيرتي الكلية الصِغَر ... و"ليحفظك في ظلِّ جناحيه من كل شر" (مزمور 90/4،10/11).