السماء في الإيمان، للطوباوية اليصابات للثالوث

  • مقدمة
  • اليوم الأول
  • اليوم الثاني
  • اليوم الثالث
  • اليوم الرابع
  • اليوم الخامس
  • اليوم السادس
  • اليوم السابع
  • اليوم الثامن
  • اليوم التاسع
  • اليوم العاشر


  • مقدمة

    في هذه الصفحات، تبوح لنا الأخت إليصابات للثالوث بسرّ قداستها وبمثلها العليا وقد تحقّقت في مساء حياتها القصيرة. فهذه الكلمات الوجيزة تُدخِلُنا الى قدسِ أقداس "بيتِ الله الصغير" كما كانت تحب أن تُدعى. فلم تبرحْها قط هذه الفكرة وهي أن تكون للثالوث الأقدس "تسبحةَ مجد"، ومن ثمة أدّت بها الى أن تحيا حياةً سماوية وهي بعدُ على الأرض، كما أوضحت ذلك غداة إبرازها النذور قائلة: "سمائي هي في الإيمان مع إحتمال العذاب والتضحية في سبيل ذاك الذي أحبّه...".

    فكأني بالأخت إليصابات في هذه الرياضة تحاول أن تكشف النقاب عن حالة الطوباويين ازاء رؤية الذات الالهية فتقول: "يبان لي أني اولي قلبَ الله فرحاً لا يوصف اذا عكفتُ في سماء نفسي على ما يقوم به الطوباويون في السماء دونما انقطاع، فأعيش في حضن الثالوث الهادئ ولجّته التي لا يُسبرُ غورُها، معتصمةً بحضنِ الاختلاء المنيع الذي يتكلم عنه القديس يوحنا الصليب."

    فها هي ذي الأخت إليصابات للثالوث تتشبّه بأبيها القديس وتسعى لتحقيق هذه الفكرة بقدر ما تسمو في الفضيلة. فانها لمحت في نور الله قداسته غير المتناهية والعمل الذي تريد نعمته أن تجريه فينا، والاتحاد السامي الذي باستطاعتنا أن نحقّقه منذ الآن، ومن ثم أخذت تشلّ كل حركة في الطبيعة تنافي هذا العمل الالهي، وتلاحق الأنانية الى عمق مغاورها السحيقة.

    ففي كل يوم من أيام هذه الرياضة تتكرر الفكرة عينها مؤيدة بنص من الكتاب المقدس. فالغاية المنشودة هي هي لا تتغير، والواسطة للبلوغ إليها كذلك واحدة وهي : "لم أعرف شيئاً سواه"... فجاءت هذه الصفحات بمثابة أنشودتها المفضلة وتمهيداً "للقدوس..." الأبدي في السماء.



    اليوم الأول

    * التأمل الأول

    1- "يا أبتِ، إن الذين أَعطيتني أُريدُ أن يكونوا معي حيث أكون، فيعاينوا مجدي الذي أعطيتني، لأنك أَحببتني قبل إنشاءِ العالم" (يوحنا17/24). تلك هي إرادة المسيح الأخيرة، وصلاتُه السامية قبل أن يعود إلى أبيه. وهو يريد أن نكونَ، نحن أيضاً، حيث يكون، ليس فقط مدى الأبدية، بل منذ الآن، في الزمن الذي هو بدايةُ الأبدية، إنما في تقدم دائم. فمن المهم، إذاً، أن نعرفَ أينَ يجب أن نعيشَ معه، لكي نحقِّق حلمَه الإلهي. فالمكان الذي يختبئُ فيه ابن الله، هو حضنُ الآب، أو الجوهر الإلهي، الذي لا يراه أيُّ بصرٍ فانٍ، ولا يستطيعُ إدراكَه اّيُّ عقلٍ بشري. وهذا ما جعل أشعيا يقول: إنّك حقّاً لإلهٌ محتجب (أشعيا 45/15). فإرادته، مع ذلك، هي أن نثبتَ فيه، وأن نقيمَ حيث يُقيم، في وحدةِ الحبِّ، وأن نكون، كما يقال، كَظِلٍّ لِذاته.

    2- "لقد طُعِّمْنا في يسوعَ المسيح بالعماد"، يقول القديس بولس (رومية 6/4-5). ويقول أيضاً: لقد أجلسنا الله في السماوات في المسيح يسوع ليُظهر للأجيال الآتية فرطَ غنى نعمته (أفسس2/6-7). وجاء لاحقاً: لستم، إذاَ، بعد اليوم، غرباء أو نزلاء، بل أنتم من ابناء وطن القديسين وأهل بيت الله (أفسس 2/19). فالثالوث: ها هوذا مسكنُنا، وبيتنا الخاص بنا، البيتُ الأبوي الذي يجب علينا ألاّ نخرج منه أبداً. لقد قال المُعلِّم يوماً: العبد لا يثبت في البيت إلى الأبد وإنما الابن يثبت فيه إلى الأبد" (القديس يوحنا 8/35).

    * التأمل الثاني

    3- "اثبتوا فيّ" (يوحنا15/4). من يعطي هذا الأمر إنما هو كلمة الله، الذي يُفصح عن هذه الارادة. أثبتوا فيّ، ليس لبضع لحظات أو لبضع ساعات تنقضي، لكن أثبتوا بشكل مستمرّ كأنّه عادة فيكم. اثبتوا فيّ، صلّوا فيّ، أعبدوا فيّ، أَحبوا فيّ، تألموا فيّ، إعملوا وتحركوا فيّ. وأثبتوا فيّ لتُقبِلوا على كلِّ شخص أو كلِّ شيء، توغّلوا دائماً أكثر فأكثر في هذا العمق. فهناك، حقاً، توجد الوحدة التي إليها يريد الله جذبَ النفس كي يخاطبها، كما كان يُنشد النبي (هوشع 2/14).

    4- لكن لكي نسمع هذه الكلمة السرّية جداً، يجب ألا نتوقَّفَ، كما يقال، عند ظاهر الأمور، بل يجب التوغل بالاختلاء، أكثر فأكثر، في عمق كيان الله. والقديس بولس كان يصرخ: أواصل السعي (فيليبي 3/12). هكذا، يجب علينا أن نهبط، كل يوم، في درب الغمر هذا الذي هو الله. فلندع نفسَنا تنزلق على هذا المنحدر، بثقةٍ مُفعمةٍ كلّها بالحب. غمرٌ ينادي غمراً (مزمور 41/8)، وهناك في العمق تحدث الصدمة الإلهية. ذلك أن غمرَ عدمِنا وبؤسِنا يلتقي وجهاً لوجه غمرَ الرحمة، وسعةَ الكلّ الإلهي التي لا تُحدّ. فهناك سنجد القوة لنموتَ عن ذواتنا؛ وبإضاعتنا أثَرَنا الذاتي نتحوّل إلى حبّ ... طوبى للأموات الذين يموتون في الرب (رؤيا 13/14).



    اليوم الثاني

    التأمل الأول

    5- ها إنَّ ملكوت الله في داخلكم (لوقا 17/21). منذ قليل، كان الله يدعونا إلى أن نثبتَ فيه، وأن نحيا بالنفسِ في ميراث مجدِه (أفسس1/18)؛ والآن يكشف لنا أن ليس علينا الخروج من ذاتنا كي نجده: لأن ملكوتَ الله هو في الداخل .. يقول يوحنا الصليب: "إنما في جوهر النفس التي لا يستطيع بلوغُها ابليس ولا بشر، يعطي الله ذاته لها، وعندئذِ تصبح جميعُ تحرّكاتها إلهية؛ ومع أنها من الله، فهي أيضاً في النفس، لأن ربَّنا يُنتجُها فيها ومعها.

    6-والقديس نفسه يقول أيضاً: "الله هو مركز النفس. حين تتعرّف النفسُ اللهَ معرفةً تامة، بكلِّ قوتها، وتحبِّه وتنعم به ملءَ التنعّم، فستكون قد وصلت إلى أعمقِ مركزٍ تستطيع بلوغَه في الله". وقبل الوصول إلى هناك تكون النفسُ قد صارت "في الله الذي هو مركزُها"، "لكنها ليست في مركزها الأعمق، لأنها تستطيع أن تذهب إلى أبعد من ذلك. وبما أن الحبّ هو ما يوحِّد النفسَ بالله، فبقدر ما يكون هذا الحب شديداً بقدر ذلك تتوغل النفسُ بعمقٍ في الله وتتمركز فيه". "وعندما تملك النفس درجةً واحدة من الحبّ، تكون قد أصبحت في مركزها"؛ لكن حين يبلغ هذا الحبُّ كمالَه ، تكون النفسُ قد توغَّلت في "مركزها الأعمق" ("شعلة الحب الحيّة"، للقديس يوحنا الصليب، البيت الأول. في هذا الاستشهاد تشدد أليصابات على كلمة "العمق" واضعة إياها بين قوسين). فهناك سيتمّ تحوّلها الى حدٍّ تصبحُ معه شبيهةً جداً بالله. فإلى هذه النفس التي تحيا في الباطن، يمكن أن يتوجَّه الكلامُ الذي وَجَّهه الأب لاكوردير إلى القديسة المجدلية: "لا تسألي بعد الآن،أحداً على الأرض، عن المعلّم ولا أحداً في السماء، لأنه هو، يكون نفسَك ولأن نفسَك تكون هو" (Lacordaire"القديسة مريم المجدلية"، باريس، منشورات بوسييلغ - روزاند، 1860، ص 130)

    التأمل الثاني

    7- إنزل على عجل، فيجب عليّ أن أقيم اليوم في بيتك (لوقا19/5). يردّد المُعلِّم، بدون كلل، على مسامع نفسنا، هذا الكلام الذي قاله يوماً لزكّا. إنزل على عجل. فما هو، إذا، هذا النزول الذي يطلبه منّا سوى دخولٍ أكثر عمقاً في غمرِنا الداخلي؟. هذا الفِعل ليس انفصالاً خارجياً عن الأمور الخارجية، بل هو خلوة الروح، وهو انعتاق من كل ما ليس الله.

    8- طالما أنَّ لإرادتنا نزواتٍ غريبةً عن الاتحاد الإلهي، ولها أهواء تتردَّد بين نعم ولا، فنحن نبقى في الحالة الطفولية، ولانمشي في الحبّ بخطوات عملاقة، لأن النار لم تُحرق، بعدُ، جميعَ الشوائب ؛ والذهب ليس صافياً؛ ونحن لانزال نبحث عن ذواتنا؛ والله لم يمحَق كلَّ عداوتنا له. لكن حين يقضي غليانُ المِرجَل على كلِّ عيبٍ في الحب، وعلى كلِّ ألمٍ معيب وكلِّ خوف معيب، حينئذٍ يكون الحبُّ كاملاً، ويكون خاتمُ قِراننا الذهبي أكثر اتساعاً من السماء والأرض. ها هو بيت المؤن الخفي حيث يضع الحبُّ مختاريه. هذا الحبّ يقودنا في المُنعَرجات والدروب الضيّقة التي يعرفها هو وحده؛ ويقودنا بدون رجوع، ولن نعود أبداً على أعقابنا.



    اليوم الثالث

    التأمل الأول

    9- إذا أحبّني أحد، حفظ كلامي، فيحبُه أبي وإليه نأتي فنجعل لنا عنده مقاماً (يوحنا 14/23).

    هوذا المُعلِّم يُفصح، أيضاً عن رغبته في السكن فينا. إذا أحبَّني أحد: الحبّ؛ هوذا ما يجذب الله ويقوده حتى خليقته: إنه ليس حُباً حسيّاً، لكن ذاك الحب القوي كالموت والذي لا تستطيع المياه الغزيرة أن تطفئه (نشيد الأناشيد 8/7-6).

    10- لأنني أحبّ الآب، أعمل دائماً أبداً بما يرضيه (يوحنا 14/31، 8/29). هكذا كان المُعلِّم القدوس يتكلمّ. وكل نفسٍ تريد أن تحيا بصلة به، يجب أن تعيش هذا المبدأ. يجب أن يكون رضى الرب طعامَها وخبزَها اليومي (يوحنا 4/32)؛ ويجب أن تجعل من نفسِها ذبيحةً لكل ما يريده الآب على صورة المسيح المعبود؛ كلُّ حادث وكلُّ حدث، كلُّ ألم كما كلُّ فرح، هو سرٌّ يعطيها الله إياه؛ ثم إن النفس لا تعود تفرِّق بين هذه الأشياء، بل تقطعُها وتتجاوزها كي تستريحَ فوق كلِّ شيء، في مُعلِّمها، نفسِه؛ عالياً جداً "على جبل قلبه. نعم! أعلى من هباته وتعزياته، وأبعد من العذوبات التي تنهمر منه. فخاصيّة الحبّ هو ألاّ يفتِّشَ عن نفسه، ولا يحتفظ بشيء لنفسه، بل يعطي كلَّ شيء لمن يحبّه. طوبى للنفس التي تحبّ حقاً، فقد أصبح الربُّ أسيرها بالحبّ.

    التأمل الثاني

    11- أنتم أموات وحياتُكم محتجبةٌ مع المسيح في الله (قولسي3/3). ها هو القديس بولس يُعطينا نوراً فيضيء أمامنا دروبَ الغمر . أنتم أموات !. ماذا يعني هذا القول، سوى أنّ النفسَ التي تصبو إلى أن تحيا ملتصقةً بالله في قلعة الاختلاء المقدَّس المنيعة يجب أن تكون منفصلةً ومتجرِّدةً ومبتعدةً عن كل شيء (في ما يخصّ الروح). هذه النفس تجد في ذاتها مجرَّدَ مُنحدرِ حبٍّ يتَّجه نحو الله، مهما حاولت المخلوقات؛ فهي صامدةٌ تجاه الأشياء التي تزول، لأنها تمرّ فوقها تائقةً إلى الله.

    12- أواجه الموت كل يوم (قولسي 15/31)، أنا أنقصُ، (يوحنا 3/30) وأزداد يوماً بعد يوم زهداً بنفسي حتى يكبرَ المسيحُ فيَّ ويتمجَّدَ؛ وأمكث صغيرةً جدّاً في صميم فقري، وأرى عدمي وبؤسي وعجزي. وأشعر بأنني غيرُ قادرة على التقدم والمثابرة. وأرى كثرةَ هفواتي وأخطائي وأرى ذاتي في عوزي؛ أخُرُّ إلى الأرض في بؤسي، معترفةً بشدّتي وأطرحها أمام رحمةِ مُعلِّمي. أواجهُ الموتَ كلَّ يوم، وتفرح نفسي (هذا من جهة الإرادة وليس بالإحساس)، بكلِّ ما يمكن أن يُهلكَني ويُتلفني ويُذلَّني، لأنني أريد أن أُخليَ المكانَ لِمُعلِّمي. فما أنا أحيا، بل هو يحيا فيّ (غلاطية2/20). فلا أريد، من بعدُ، أن أحيا حياتي الخاصة، بل أن أتحوّلَ في يسوع المسيح، حتى تصيرَ حياتي إلهيةً أكثر منها بشرية، وإلى أن يتعرَّف الآب، بانحنائه صوبي، صورةَ (رومية 8/29) ابنه الحبيب الذي وضع فيه كلَّ مسرّاته (متى 17/5).



    اليوم الرابع

    التأمل الأول

    13- أن إلهنا نار آكلة (عبرانيين 12/29)، هذا ما كتبه القديس بولس، يعني أنه نارُ حبٍّ يُتلف ويُحوِّل إلى ذاته كلَّ ما يلمسه. إنَّ لذائذ الاشتعال الإلهي تتجدَّد في أعماقنا بحيوية لاتفتر أبداً. إنه اشتعال الحبّ برضىً متبادل وأبدي. إنه تجدُّدٌ في علاقة الحبِّ يتمُّ في كل لحظة. لقد اختارت بعضُ النفوس هذا المأوى حتى ترتاح فيه مدى الأبد. فذاك هو السكون الذي ضاعت فيه نوعاً ما. وبعد انعتاقِها من سجنها أبحرت في الأوقيانوس الإلهي بدون أن تعترضَها أيُّ خليقة أو تزعجها.

    14- إن الموت السرِّي الذي كلّمنا القديس بولس عليه بالأمس، يصبح بسيطاً جداً وعذباً جدّاً بالنسبة إلى هذه النفوس: فهي تفكّر في فعل التدمير والتجريد الذي بقي لها أن تعانيه، أقل بكثير مما تفكر في الغوص في موقد الحبّ الذي يتأجَّج فيها، وهو ليس إلاَّ الروح القدس، الحبّ بالذات الذي هو الصلة بين الآب وكلمته في الثالوث الأقدس. [هذه النفوس] تدخل [في هذا الحب] بالإيمان الحي، وهناك، يخطفها طاهرةً وساكنةً، فوق الأشياء والأذواق الحسية، في الظلمة المقدسة وتتحوّل إلى الصورة الإلهية. إنها تحيا في شركة كما قال القديس يوحنا (يوحنا 1/3) مع الأقانيم الثلاثة المعبودة، فحياتهم مُشتركة، و تلك هي حياة التطلّع؛ هذا التطلّع يقود إلى الامتلاك. هذا الامتلاك البسيط، إذاً، هو الحياة الأبدية التي نتذوقّها في المكان الذي لا قعرَ له. إنما ينتظرنا، هناك، في ما هو أعلى من العقل، السكون العميق والثبات الإلهي .

    التامّل الثاني

    15- جئت لألقيَ على الأرض ناراً وما أتمنى سوى أن أراها تشتعل؟ (لوقا 12/49) هذا هو المُعلِّم نفسه يُبدي رغبتَه في رؤية نار الحبّ تشتعل. في الواقع، إن كلَّ أعمالنا وكلَّ جهودنا، ليست شيئاً أمامه. ولا نستطيع أن نعطيه شيئاً ولا أن نُرضيَ رغبتَه الوحيدة في رفع كرامة نفسنا. لا شيء يرضيه بقدر ما أن يراها تكبر. وبالفعل، لا شيء يمكنه أن يرفعَها بقدر ما يرفعُها أن تصبحَ نوعاً ما مساويةً لله. لهذا السبب يطلب منها أن تؤدِّي لَه ضريبة حُبِّه. وخاصيَّة الحبّ هي أن تساوي بالقدر الممكن بين المُحِبِّ والمحبوب. فحين تستحوذ النفس على هذا الحبّ، تظهر مع يسوع المسيح على قدم المساواة، لأن حُبَّهما المتبادل يجعل كل شيء مشتركاً بينهما. لقد دعوتُكم أصدقائي لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من أبي (يوحنا15/15).

    16- لكن من أجل بلوغ هذا الحبّ يجب أن تكون النفس قد سبق وسلّمت ذاتها كلَّها، وأن تكون إرادتُها قد تلاشت في إرادة الله بهدوء، كي لا تتحرَّكَ ميولهُا وقدراتُها من بعد، إلا في ذلك الحبّ ومن أجله. أعملُ كلَّ شيء بحبّ، وأعاني كل شيء بحُبّ، هذا هو معنى ما كان داود ينشده: أحفظ لكَ كلَّ قوتي (مز 58/10). عندئذٍ يملأها الحبّ ويمتصّها ويحميها. بحيث أنها تجد في كل مكان السرَّ بأن تكبر بالحبّ، حتى في وسط علاقاتها مع العالم؛ و في خضمّ مشاغل الحياة يكون لها الحقّ بالقول: شغلي الوحيد هو أن أحبّ!...



    اليوم الخامس

    التأمل الأول

    17- ها أنذا واقف على الباب أقرعه، فإن سمع أحد صوتي وفتح لي الباب دخلت إليه وتعشّيت معه وتعشّى معي (رؤيا 3/20). طوبي لآذان النفس المتيقّظة المصغيه بما يكفي لتسمع هذا الصوت، صوتَ كلمة الله، وطوبى لعيون (متى 13/16) هذه النفس أيضاً التي تستطيع أن ترى، بنور الإيمان الحي العميق، مجيء المُعلِّم إلى معبدها الحميم. لكنَّ ما هو هذا المجيء إذا ؟ إنها ولادة مستمرّة، وإشراقٌ دائم لا يتوقّف. يأتي المسيح بكنوزه. لكن هذا هو سرُّ تسارع الله أنّه يأتي باستمرار، وكأنه يأتي دائماً للمرة الأولى ولم يكن قد أتى على الإطلاق. لأن مجيئه، غير مرتبط بالزمان، ويكمن في آنٍ أبدي وفي رغبة أبدية تجدِّد إلى ما لانهاية أفراحَ المجيء. المباهج التي يأتي بها هي لامتناهية لأنها هو نفسه. إن سعةَ النفس، المتمدّدة بمجيء المُعلِّم، تبدو أنها تخرج من ذاتها كي تنتقلَ عبر الجدران في سعة الآتي اللامتناهية. وهذا ما يحدث: الله القابعُ في أعماقنا يتلقَّى الله القادم إلينا؛ والله يتطلّع الله! الله الذي فيه تكمن الغبطة.

    التأمل الثاني

    18- من أكل جسدي وشرب دمي ثبت فيّ وثبتُّ فيه (يوحنا6/56). إن أولى علامات الحبّ هي أن يسوع أعطانا جسده طعاماً ودمَه شراباً. وخاصيّة الحبّ تكمن في العطاء دائماً والتلقّي دائماً. في حين أن حبَّ المسيح هو سخي؛ فهو يعطي كلَّ ما عنده، وكلَّ ما هو وينتزع منّا كلَّ ما لنا، وكلَّ ما نحن عليه. إنه يطلب أكثر مما نستطيع أن نعطي. ولديه جوعٌ هائل يريد التهامَنا قطعاً. وهو ينفذ حتى إلى نخاع عظامنا؛ وبقدر ما نسمح له بذلك حبًّا به، بقدر ذلك ننعم بتذوّقه. وهو يعرف أننا فقراء، لكنه لا يعير أهميّةً لهذا الفقر، ولا شيءَ يعفينا منه. وهو نفسه يصنع لنفسه خبزه فينا. ويمحو أولاً في حبِّه ، العيوب والأخطاء والخطايا. ثم، حين يرانا طاهرين، يأتي فاغراً فاه كالنسر الذي يريد التهام كل شيء. ويريد أن يُتلِفَ حياتَنا المليئة بالعيوب ليحوِّلها إلى حياته،. حياتِه المليئة نعمةً ومجداً. وهي معدّة كلُّها لنا، إن كفرنا بذاتنا لا أكثر. ولو كان لعيونِنا من حدّة البصر ما يكفي لترى شهيّة المسيح الملحّة وجوعَه إلى خلاصنا، فلن يمنَعنا كلُّ رفضنا من الطيران إلى فمه المفتوح. يبدو هذا الأمر غير معقول؛ أما الذين يحبّون فيفهمونه! عندما نستقبل المسيح بالتفاني الداخلي، يسيل دمه المفعم حرارةً ومجداً في عروقنا، وتشتعل النارُ في صميمنا، و تحصلُ لنا مشابهةُ فضائله، فيحيا فينا ونحيا فيه. ويعطينا ذاته مع ملء النعمة التي بها تثابر النفسُ في المحبّة وتسبيح الآب!.

    والحبّ يجرُّ في ذاته موضوعَه، ونحن نجرُّ يسوع في ذاتنا، ويسوع يجرّنا في ذاته . عندئذ، إذ نُخْطَفُ إلى ما هو أعلى منَّا، في داخل الحبّ، تائقين إلى الله، نبادر إليه وإلى روحه الذي هو حبُّه. وهذا الحبُّ يُضرمنا ، يُذيبنا ويجذبنا في الوحدة حيث تنتظرنا . كان يسوع المسيح ينظر إلى هناك حين قال: اشتهيت شهوةً أن آكل هذا الفصحَ معكم (لوقا 22/15).



    اليوم السادس

    التأمل الأول

    19-مَن يتقرّب إلى الله لا بدّ له أن يؤمن (عبرانيين 11/6) هذا ما يقوله القديس بولس. وقال أيضاً الإيمان قوامُ الأمور التي تُرجى وبرهانُ الحقائق التي لاترى (عبرانيين 11/1). يعني أن الإيمان يجعل الخيراتِ المستقبلية أكيدةً وحاضرةً بحيث إنها بهذا الإيمان تتكوّن في نفسنا وتقومُ فيها قبل أن ننعم بها. يقول يوحنا الصليب: الإيمان هو بمثابة قَدَمين للذهاب إلى الله. هو أيضاً الامتلاك في حالته الغامضة.الإيمان يستطيع أن يعطيَنا الأنوار الحقيقية عن الذي نحبّه، وعلى نفسنا أن تختار الإيمان وسيلةً لبلوغ الإتحاد المغبوط. والإيمان هو الذي يسكب بغزارة في أعماقنا كلَّ الخيرات الروحية. وعندما كان يسوع المسيح يخاطب السامرية، إنما كان يقصد الإيمان عندما وعد كلَّ من يؤمن به بأن يعطيه عينَ ماءٍ يتفجَّرحياةً أبدية (يوحنا4/14). "هكذا، إذاً، إن الإيمان يعطينا الله، منذ هذه الحياة، مُغلَّفاً، وهذا حقيقي، بحجابٍ يحجبه؛ لكنه مع ذلك هو الله بذاته. متى جاء الكامل، يعني الرؤيا النيِّرة، زال الناقص. أو بكلام آخر، إنَّ المعرفة التي يتيحها الإيمان ستتقبَّل كلَّ كمالها (من 1 قورنتس 13/10).

    20 - نحن عرفنا المحبة التي يظهرها الله بيننا وآمنّا بها (1 يوحنا 4/16). إنما هنا يقوم فعلُ إيماننا الكبير؛ فهو الوسيلة لنبادل إلهنا حبّاً بحبّ؛ إنه السر المكتوم (قولسي 1/26)، في قلب الآب الذي يتكلّم القديس بولس عليه، والذي نتوغّل فيه أخيراً، وتهتز له نفسُنا فرحاً! وعندما تعرف النفسُ أن تؤمن بهذا الحب الشديد (أفسس2/4) الذي فوقها، يمكن القول عنها، كما قيل عن موسى، كان ثابتاً في إيمانه، ثبوتَ من يَرى الذي لا يُرى (عبرانيين 11/23). ولا تعد النفسُ تتوقَّف عند الأذواق والمشاعر: ما الهمّ أن تحسَّ بالله أو ألا تحسّ به! ما الهمّ إن أعطاها الفرحُ أو الألم: إنها تؤمن بحبّه. كلّما زادت محنتُها كبُر إيمانُها أكثر. لأنها تجتاز، كما يُقال، جميعَ العقبات حتى تذهبَ لترتاحَ في حضن الحبّ اللامتناهي الذي لا يمكنه أن يقوم إلاَّ بأعمال الحبّ. ويمكن أن يقولَ صوتُ المُعلِّم أيضاً لهذه النفس المتيقِّظة جداً في إيمانها بسريَّةٍ حميمة، هذه الكلمات التي وجّهها يوماً إلى مريم المجدلية: اذهبي بسلام فإيمانك خلَّصك(لوقا 7/50).

    التأمل الثاني

    21- إن كانت عينُك بسيطةً، كان جسدُك كلُّه نَيِّراً (متى 6/22). ما هي هذه العين البسيطة التي يكلِّمنا المُعلِّم عليها غير "بساطة النيّة" التي تجمع في الوحدة كلّ قوى النفس المشتّتة، وتوحِّد بالله الروحَ نفسه؟ إنها البساطة التي تمجِّد الله وتسبّحُه، والتي تقدم لله الفضائل وتهديها إليه. ثم، إذ تخترق البساطةُ وتجتازُ ذاتَها، وإذ تجتازُ وتخترق جميعَ المخلوقات تجد الله في عُمقِها. إنها مبدأُ الفضائل، وغايتُها، وبهاؤها ومجدُها. وأعني بالنية البسيطة تلك التي لاتقصُدُ غيرَ الله وتُعيد جميعَ الأشياء إليه. هي من تضع الإنسان في حضور الله، وهي من تُعطيه نوراً وشجاعة؛ هي التي تجعله خالياً ومتحرِّراً من كلِّ خوفٍ، الآن وفي يوم الحساب. إنها المنحَدَر الداخلي، والأساس لكلِّ حياةٍ روحية. وتحتقر الطبعَ الشرير وتأتي بالسلام، وتفرض السكونَ على الضجيج العابث الذي يحدث فينا. إنما هي من يُضاعفُ مُشابهتَنا الله ساعةً بعد ساعة. ثم، هي أيضاً، من تتجاوز كلَّ الوسطاء وتحملنا إلى العمق، حيث يمكثُ الله وتمنحنا راحةَ الغمر. إنَّ الإرثَ الذي أعدَّته الأبدية لنا، إنما البساطة تعطينا إياه. وحياةُ النفوس كلُّها وفضائلُها كلُّها تقوم على البساطة بالإضافة إلى مشابهة الله. وفي البساطة أيضاً تتمُّ راحةُ النفوسُ الأبدية في العلى. وكلُّ روح، تملك في عمقها الذاتي، وتبعاً لمقياس حبِّها، التماس وجه الله، بأكثر عمقٍ أو أقلّ. وإذ تنهض النفس البسيطة بقوة بصيرتها الداخلية، تلج ذاتها وتتأمل، في غمرِها الخاص، المقْدِسَ الذي فيه تُلمَسُ، بملامسة الثالوث الأقدس. لقد توغّلت هكذا في عمقِها الذاتي حتى أساسِه الذي هو بابُ الحياة الأبدية.



    اليوم السابع

    التأمل الأول

    22- اختارنا الله فيه من قبل إنشاء العالم لنكونَ في نظره قديسين بلا عيب في المحبة (أفسس 1/4)

    خلقنا الثالوثُ الأقدس على صورته، حسب المثال الأبدي لذاتِنا الذي كان يملكه في حضنه قبل أن يتكوّن العالم، في هذا البدء الذي لا بدءَ له، الذي تكلَّم عنه بوسوية بعد القدّيس يوحنّا: "في البدء كان الكلمة" (يوحنا1/1)، ويمكن أن نضيف: في البدء كان العدم، لأن الله، في وحدته الأبدية ، كان يحملُنا في فكره. الآب يتطلّع ذاتَه في غمر خصوبته، وها هو، بفعل إدراك ذاته، يولِّد كائناً آخر هو الابن، كلمته الأبدي. فمثالُ كلِّ المخلوقات، التي لم تكن قد خرجت بعد من العدم،كان يقيم فيه أبديّاً واللهُ كان يراها ويتطّّّلعها في مثاله، ولكن في ذاته. وهذه الحياة الأبدية التي تمتلكها نماذجُنا في الله، من دوننا، هي سببُ خلقنا.

    23- إنَّ ماهيَّتنا المخلوقة تتوق إلى الالتحاق بمبدإها. والكلمة بهاءُ الآب، هو المثال الأبدي الذي صُوِّرت المخلوقات على مثاله في يوم تكوينها. لذلك يريد الله الذي أعتقنا من ذواتنا، أن نمدّ أذرعنا نحو مثالنا ونملكه، فنصعد فوق جميع الأشياء نحو مثالنا. هذا التطلّع يفتح للنفس آفاقاً غير متوقعة، فهي تملك، بشكلٍ ما ، الإكليل الذي تطمح إليه. كما ان الكنوز الهائلة التي يملكها الله بطبيعته يمكننا الحصول عليها بفضل الحبّ، بإقامته فينا، وإقامتنا فيه. إنما بفضل هذا الحبّ الفائق الحدّ نَنجذب إلى عمق "المقْدس الحميم" حيث يَطبع الله فينا صورةً ما عن جلاله. فبفضل الحبّ إذاً، وبالحبّ، كما يقول الرسول، نستطيع أن نكون بلا عيب وقديسين في نظر الله (أفسس1/4)، ونُنشد مع داود :سأكون بدون لطخة، وسأصون نفسي من بؤرة الشرّ التي فيّ. (مزمور 7/24)

    التأمل الثاني

    24 - كونوا قديسين لأنّي أنا قدوس (1بطرس1/16). قائل هذا الكلام هو الرّب. فعلى كلٍّ منا أن يكونَ قدوسَ الله مهما كان نمطُ حياتنا والثوبُ الذي يغطّينا. من هو، إذاً أكثرُنا قداسةً؟ هو أكثرُنا شخوصاً إلى الله وأشملُنا إرضاءً لحاجاتِ نظره. وكيف نرضي حاجات نظر الله سوى بأن نتوجَّه إليه ببساطةٍ وحبّ، لكي يستطيعَ أن يعكسَ فينا صورتَه الذاتية كما تنعكسُ الشمس من خلال بلّورٍ صافٍ؟ "لنصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا" (تكوين1/26). تلك كانت إرادةُ قلب إلهنا العظمى. بدون المثال الذي يأتي من النعمة، فالهلاك الأبدي ينتظرنا. ما إن يرانا الله مُؤَهَّلين لتقبُّل نعمته، حتى يكونَ صلاحُه الحرّ مستعداً لإعطائنا الهبة التي تعطينا مثاله. وتتعلّق جدارتنا لتلقّي نعمته بالاستقامة الباطنية التي نتحرّك بها نحوه. والله، بحمله إلينا هباته، يستطيع عندها أن يعطي ذاته وأن يطبع فينا مثاله ويَحُلَّنا ويخلِّصنا.

    25- يقول مؤلِّفٌ ورع (المؤلف الورع هو القديس ألبرت الكبير، في كتابه "الاتحاد بالله"، منشورات سان بول، فريبورغ، 1895): "الكمالُ الأسمى في هذه الحياة يقوم على البقاء مُتَّحدين بالله، غلى حدٍّ أنَّ النفسَ تختلي في الله بكلِّ قدراتها وقواها، وأنَّ عواطفَها المتّحدة في فرح الحبّ، لا تجد الراحةَ إلا في امتلاك الخالق. في الواقع، تتكوّن صورة الله المطبوعةُ في النفس من العقل والذاكرة والإرادة. وطالما أن هذه القوى لا تحمل صورةَ الله الكاملة، فهي لا تشابهه كما في يوم الخلق. إنَّ صورة النفس هي الله الذي لا بدَّ أن ينطبع فيها كالختم في الشمع، وكالعلامة على موضوعها. ولايتحقَّق ذلك بملئه إلا إذا كان العقل بكامله مستنيراً بمعرفة الله، وكانت الارداة مُقيَّدةً بحبِّ الخير الأسمى، وكانت الذاكرة مستغرقةً كُلياً في تطلّع السعادة الأبدية والتنعّم بها. وكما أن مجد الطوباويين ليس إلا الامتلاك الكامل لهذه الحالة، فمن الواضح أنَّ امتلاك هذه الخيرات، يشكّل الكمال في هذه الحياة. ومن أجل تحقيق هذا المثال، لا بدّ من الاختلاء داخل الذات والقيام بصمت في حضرة الله، في حين أن النفس تستغرق فيه، وتتمدَّد، وتتأجَّجُ وتذوب فيه، بملءٍ لا حدودَ له.



    اليوم الثامن

    التأمل الأول

    26- "إنّ الذين عرفهم الله بسابق علمه سبق أن قضى بأن يكونوا على مثال صورة ابنه .. وهؤلاء الذين سبق أن قضى لهم بذلك دعاهم أيضاً، والذين دعاهم برّرهم أيضاً. فماذا نقول بعد ذلك؟ إذا كان الله معنا، فمن يكون علينا؟.. من يفصلني عن محبّة المسيح؟" (روم 8/29-31،35). هكذا بدا لنظر الرسول المستنير، سرُّ قضاءِ الله السابق وسرُّ اختياره. هؤلاء الذين عرفهم: ألم نكن من عدادهم؟ ألم يكن في قدرة الله أن يقول لنفسنا كما قال قديماً بصوت نبيّه:"مررت بكِ ورأيتكِ. رأيت أن الوقت حان بالنسبة إليك لتكوني محبوبة، فبسطتُ ذيل ثوبي عليكِ وحلفتُ لكِ بأن أحميكِ، ودخلتُ معك في عهدٍ فصرتِ لي" (حزقيال 16/8)؟

    27- نعم، لقد أصبحنا خاصتَه بالعماد، وهذا ما أراد القديس بولس قوله بهذه العبارة: ودعاهم؛ نعم، إننا مدعووات لنقتبل ختمَ الثالوث الأقدس؛ وفي الوقت نفسه، حين كُنّا قد صرنا شركاء الطبيعة الإلهية، حسب كلام القديس بطرس (2 بطرس1/4)، تلقَّينا بدءاً من كيانه؛ ثم برّرنا بأسراره وبملامساته المباشرة في الاختلاء في عمق نفسنا؛ نحن أيضاً مبرَّرون بالإيمان (رومية5/1) بمقدار إيماننا بالفداء الذي كسَبَه لنا يسوعُ المسيح. وأخيراً، أراد تمجيدنا. ولهذا يقول القديس بولس: "أهّلنا للشركة في إرث القديسين في النور"(قولسي1/12)، لكننا سنمجَّد بمقدار ما نتماثل مع صورة ابنه الإلهي (رومية8/29). فلنتأمل، إذاً هذه الصورة المعبودة، ولنمكث تحت إشعاعها من دون توقّف حتى تنطبع فينا؛ ومن بعدها، فلنَسِرْ نحو كلِّ شيء بما أُعدَّ في النفس، هناك حيث قد يأتي مُعلِّمنا القدوس. حينئذٍ نحقِّق مشيئةَ الله العظمى التي بها ارتضى الله في نفسه أن يجدّد كلَّ شيء بالمسيح (أفسس 1/9-10).

    التأمّل الثاني

    28- يبدو لي كلُّ شيء خسرانا منذ أن علمتُ ما في معرفة يسوع المسيح، ربِّي. لأجل حبِّه خسرتُ كلَّ شيء معتبراً كل شيء نُفاية لأربح المسيح. ما أريده هو أن أعرفه هو، والاشتراك في آلامه والتطابقَ في موته. وأتابع سعيي لأصل إلى ما سبقَ واختارني له عندما أخذني. كلُّ هَمِّي هو نسيان ما ورائي والنزوع باستمرار إلى ما هو أمامي، فأسعى إلى هدفي مباشرة، إلى الدعوة التي دعاني الله إليها في يسوع المسيح (فيلبي 3/8-10، 12-14). هذا يعني أنني لا أريد شيئاً سوى أن أتماهى فيه: فالحياة عندي هي المسيح (فيليبي 1/21).

    كلُّ نفس القديس بولس المضطرمة تظهر عبر هذه السطور. هذه الرياضة الروحية تهدف إلى جعلنا أكثر تشبّهاً بمُعلِّمنا المعبود، وأكثر من ذلك، إلى أن نذوب فيه لدرجة نستطيع معها القول: "فما أنا أحيا، بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ. وما لي من حياة في هذا الجسد المائت، فأنا أحياه في الإيمان بابن الله الذي أحبّني وجاد بنفسه من أجلي" (غلاطية 2/20). آه ! فلندرسْ هذا المثال الإلهي: فمعرفته حسب قول الرسول سامية جدّاً (فيليبي 3/8).

    29- وفي بادىء الأمر، ماذا قال عند دخوله العالم؟ لم تعد الذبائح تلذّ لك؛ عندئذ لبستُ جسداً: هاأنذا يا إلهي، لأعملَ بمشيئتك" (عبرانيين 10/5-7). هذه المشيئة كانت خبزه اليومي خلال الثلاث والثلاثين سنة من عمره، حتّى استطاع أن يقول له، في اللحظة التي أَسلَم روحه بين يدي أبيه: تمّ كلُّ شيء (يوحنا 19/30). نعم، كلّ مشيئتاته، كلُّها تحقّقت؛ لهذا مجّدتك في الأرض (يوحنا 17/4). في الواقع، عندما تحدث يسوع المسيح مع تلاميذه عن الطعام الذي لا يعرفونه، قال لهم: طعامي أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني (يوحنا 4/34). وقال أيضاً: لست أبداً وحدي، الذي أرسلني هو دائماً معي، لأني أعمل دائماً ما يرضيه (يوحنا 8/29).

    30- لنأكل بحبٍّ هذا الخبز، خبزَ مشيئة الله. وإذا كانت المشيئة، أحياناً، شديدةَ العذاب، فنحن نستطيع أن نقول مع مُعلِّمنا المعبود، بدون شك: يا أبتِ، إن كان مستطاعاً أن تَبعُدَ عني هذه الكأس؛ لكنّنا نضيف على الفور: لا كما أنا أشاء بل كما أنت تشاء (متى 26/39)؛ وبالهدوء والقوّة، نتسلّق، أيضاً، جلجلتَنا مع المصلوب الإلهي، مرنّمين في أعماق نفوسنا، ورافعين نحو الآب نشيد الشكر له، لأن الذين يسيرون في هذا الطريق المؤلم، هم هؤلاء "الذين عرفهم بسابق علمه وسبق أن قضى بأن يكونوا على مثال صورة ابنه" (رومية 8/29) المصلوبِ حبّاً بنا.



    اليوم التاسع

    التأمّل الأول

    31- "قدَّر الله لنا منذ القدم أن يتبنَّانا بيسوع المسيح، "بوحدةٍ معه"، حسب ما ارتضته مشيئته لإظهار مجد نعمته التي بها برّرنا في ابنه الحبيب، فكان لنا فيه الفداء بدمه، أي الصفح عن الزلات، على مقدار نعمته الوافرة التي أفاضها علينا، بكل ما فيها من حكمة وبصيرة" (أفسس1/5-8). إنّ النفس التي أصبحت ابنة الله فعلاً، صارت، بحسب قول الرسول، منقادةً بالروح القدس نفسه: جميع الذين يَدفعهم روحُ الله يكونون، حقّاً، أبناءَ الله (رومية 8/14). وأيضاً: لم تتلقّوا روح عبودية لتعودوا إلى الخوف، بل روح تبنٍّ به ننادي: أبّاً، يا أبتِ!. وهذا الروحُ نفسه يشهد لأرواحنا بأننا ابناء الله. فإذا كنا ابناء الله فنحن ورثة، ورثةُ الله وشركاء المسيح في الميراث، لأننا إذا شاركناه في آلامه، نشاركه في مجده أيضاً (رومية 8/15/17). فلكيّ يبلّغنا غمرَ المجد، خلقنا الله على صورته ومثاله (تكوين 1/26).

    قال القديس يوحنا: أنظروا أيّ محبّة خصَّنا بها الآب لنُدعى ابناء الله، وإننا نحن كذلك.. فنحن، منذ الآن، ابناءُ الله ولم يُرَ بعدُ ما سنصيرُ عليه. نحن نعلم أننا نصبح عند ظهوره أشباهه لأننا سنراه كما هو. كلّ من كان له هذا الرجاء به، طهّر نفسه كما إنه هو طاهر (1 يوحنا 3/1-3).

    32- ها هو معيار قداسة ابناء الله: أن يكونوا قدّيسين مثل الله، قدّيسين من قداسة الله (1 يوحنا 3/3)، ويتمّ هذا بالعيش في الاتّصال به في قاعِ الغمر الذي لا قاعَ له (يتردد هذا التعبير الأليصاباتي في "السماء في الإيمان"، 43، وفي "الرياضة الروحية الأخيرة ، رقم1)، أي في الداخل. وتبدو النفس عندئذٍ أنها تنعمُ ببعض الشبه بالله، الذي وإن وجد نعيمه في كلِّ الأشياء، فهو، مع ذلك، لا يجد نعيمه فيها بقدر ما يجده في ذاته، لأنّه يملك في ذاته خيراً سامياً فوق كلِّ سموّ تختفي أمامه كلُّ الخيرات الأخرى. هكذا فإن كلَّ الأفراح التي تطرأ على النفس، هي بالنسبة إليها كتنبيهاتٍ مقابلة تدعوها إلى أن تتذوّقَ، بالأحرى، الخيرَ الذي تمتلكه في ذاتها، والذي لا يمكن لأيِّ خيرٍ آخر أن يُقارَن به. أبانا الذي في السموات (متى 6/9). ففي هذه السماء الصغيرة التي كوَّنها في مركز نفسِنا يجب أن نبحثَ عنه، وعلى الأخصّ، أن نثبتَ فيه.

    33- قال المسيح، يوماً، للسامرية: الآب يبحث عن عبّادٍ صادقين، بالروح والحق (يوحنا 4/23). فلنكن هؤلاء العابدات الدؤوبات لكي نُفرِحَ قلبَه. ولنعبدْه بالروح، أيّ ليكن قلبُنا وفكرُنا ثابتين فيه، وروحُنا مليء من معرفته، بنور الإيمان. ولنعبدْه بالصدق ، أيّ بأعمالنا، فإنّما بالأفعال، خاصّة، نكون صادقات؛ وهو أن نعمل دائماً بما يرضي الآب(يوحنا 8/29) الذي نحن بناته. وأخيراً، فلنعبدْه بالروح والحقّ أيّ بيسوع المسيح ومع يسوع المسيح، لأنّه، وحده، العابدُ الحقيقي بالروح والحقّ.

    34- عندئذٍ، نصبح بنات الله؛ ونعرف بالعلم الاختباريّ حقيقةَ كلام إشعيا: ستُحمَلون إلى الثدي.. وعلى الركبتين تُدَلّلون (إشعيا 66/12). في الواقع، "يبدو أن كلّ شغل الله هو أن يَغمُرَ النفس بملاطفاته وعلامات حبّه، مثل الأم التي تربّي ولدها وتغذّيه بلبنها. آه ! لنصغِ إلى صوت أبينا السرّي وهو يقول: يا ابنتي، أعطيني قلبَِك (أمثال 23/26).

    35- ولكن الله الواسع الرحمة، لحبّه الشديد الذي أحبّنا به، مع أننا كنّا أمواتاً بزلاتنا، أحيانا مع المسيح (أفسس 2/4-5). ذلك أن جميعَ الناس قد خطئوا وهم في حاجة إلى مجد الله؛ لكنّهم بُرِّروا مجاناً بنعمته، بالفداء الذي في المسيح يسوع،.. الذي أقامه الله كفَّارةً عن الخطايا، مُظهراً، في الوقت نفسه، أنه بارٌ وأنَّه يُبرِّر من يؤمن به (القديس بولس) (رومية 2/23-26).

    الخطيئة شرٌّ رهيب جداً، حتى إنّه لا يجوز ارتكاب أيّ خطيئة طلباً لخيرٍ ما أو هرباً من شرٍّ ما". "في حين أننا ارتكبنا عدداً كبيراً من الخطايا. فكيف يمكن ألا تخور قوانا بالعبادة عندما نغوص في غمر الرحمة وحينما تتسمّر عيونُ النفس على هذا الواقع: إنَّ الله قد رفع خطايانا. وقد قال :سأمحو كلّ معاصيهم ولن أذكرَ خطاياهم من بعدُ" (أشعيا 43/25).

    "لقد أراد الربّ من أجلنا أن يقلب خطايانا ضِدَّ ذاتها؛ ووجد الوسيلة لأن يجعلها مفيدة لنا ويُحوِّلها أداةَ خلاصٍ بين أيدينا. فلا يقَلّلنّ ذلك في شيء لا من عذاب الخطيئة ولا من الألم بأنّنا ارتكبناها. لكن خطايانا أصبحت بالنسبة إلينا مصدرَ اتضاع.

    36- حين تعتبر النفس في عمق ذاتها، بعينين يحرقهما الحب، عظمة الله وأمانته وبراهينَ حبّه وإحساناته التي لاتضيف شيئاً على سعادتها؛ ثم حين تنظر إلى ذاتها بعد ذلك وترى زلاّتها التي ارتكبتها ضد الربّ العظيم، فهي تلتفت إلى ذاتها في الصميم بنوعٍ من الاحتقار لنفسِها لا تعرف معه ماذا تفعل لكي تواجهَ فظاعتها. إن أفضلَ ما تقوم به في هذه الحالة هو الشكوى إلى الله، صديقِها، من قوى احتقارها التي تخونها لأنها لا تَضعْها في أسفل مكان تريده. وتخضع لإرادة الله، فتجد في التجرّد الذاتي السلامَ الحقيقي المنيع والكامل، الذي لا يعكّره شيء. لأنّ النفس اندفعت في مثل هذا الغمر حيث لا أحد سيذهب ليبحث عنها.

    37- إذا أكَّد أحدٌ لي أنَّ العثورَ على القاع هو الغرق في التواضع، فلن أُكذِّبه. ومع ذلك يبدو لي أن الغرق في التواضع هو الغرق في الله، لأن الله هو قاعُ الغمر. لهذا السبب فالتواضع كالمحبة يمكنه أن يكبُر دائماً. "وبما أنّ قاعاً متواضعاً هو الوعاء المناسب، الوعاء الجدير بالنعمة، والتي يريد الله أن يصبّها فيه، فلنكن متواضعين. لا يستطيع المتواضع أبداً رفعَ الله إلى سموٍّ كافٍ ولا خفضَ نفسه بما فيه الكفاية. لكن تلك هي الروعة : ينقلب عجزُه حكمةً، ويصير نقصُ فعله، الناقص أبداً بنظره، عذوبةَ حياته السميا. وأيُّ انسان يملك بعضاً من التواضع، لا يحتاج إلى كثير من الكلام لكيّ يتعلّم: فالله يقول له أشياءَ أكثر بكثير مما يمكن تعليمه منها؛ وتلاميذ الله هم في هذا الوضع.

     





    اليوم العاشر

    التأمّل الأول

    38- قال المسيح للسامرية ذات مساء: لو كنتِ تعرفين عطيَّةَ الله (يوحنا 4/10). لكن ما هي عطية الله هذه إن لم يكن هو نفسه؟ ويقول التلميذ الحبيب لنا: جاء إلى بيته فما قَبِله أهلُ بيته (يوحنا 1/11). ويستطيع القديس يوحنا المعمدان أن يقول لكثيرٍ من النفوس، كلامَ العتاب هذا: وهناك واحدٌ في ما بينكم، "فيكم"، ولاتعرفونه (يوحنا 1/26).

    39- لو كنتِ تعرفين عطية الله .... هناك مخلوقٌ عرف عطاءَ الله هذا، مخلوقٌ لم يُضيِّع جزءاً منه، مخلوقٌ كان نقياً ومشرقاً بشكل بدا فيه كأنه النور بالذات: مرآة العدل. وهو مخلوقٌ كانت حياته بسيطةً جدّاً، وغارقة في الله بنوعٍ لا يمكن القول عنها أيَّ شيء تقريباً.

    بتول أمينة : إنها العذراء الأمينة التي كانت تحفظ كلَّ الأشياء في قلبها (لوقا 2/19 و 51). كانت تقف صغيرةً جداً، متخشِّعةً جداً أمام وجه الله في خفية الهيكل، حتى إنها حظيت برضى الثالوث القدُّوس: "لأنه نظر إلى وضاعة أَمَته، سوف تُطَوِّبني، بعد اليوم، جيمعُ الأجيال" (لوقا 1/48). لقد أراد الآب، بحنوّه على تلك المخلوقة الفائقة الجمال، والتي تجهلَ تمام الجهل جمالها، أن تكون الأم في الزمان للذي هو ابن الآب في الأبدية. عندئذ فإنَّ روحَ الحبّ الذي يسهر على كلِّ أعمال الله، حلَّ فجأةً؛ وقالت العذراء نعم: "أنا أَمَةُ الرب فليكن لي بحسب قَولِك (لوقا 1/38)، وتمَّ السر الأكبر. وبحلول الكلمة في مريم، صارت فريسة الله.

    40 – يبدو لي أن موقفَ العذراء، خلال الأشهر التي انقضت بين البشارة والميلاد، هو نموذجٌ للنفوس الداخلية، أي الكائنات التي اختارها الله لتعيش في الداخل، في قاعِ الغمر الذي لا قاع له. ففي أيِّ سلام وفي أيِّ خشوعٍ كانت مريم تغوص وتستعدّ للقيام بكلّ شيء..! وكيف تألّهت بها الأمور التي كانت أكثر تفاهة! لأن العذراء بقيت، عبر كلّ شيء، العابدةَ لعطية الله.... وهذا لم يكن يمنعها من بذل ذاتها حين كان الأمر يتطلّب ممارسة المحبة؛ يقول لنا الإنجيل إن مريم مضت مسرعةً إلى جبال اليهودية لتزورَ أليصابات قريبتها (لوقا 1/39-40). ولم تكن الرؤيا الفائقة الوصف التي تتأمَّلها في ذاتها، لتقلِّلَ من ممارسة محبَّتها في الخارج. يقول مؤلف ورع: لأنّه إذا توجَّه التطلّع نحو التسبيح ونحو أبدية ربّه، ينعمُ بالوحدة ولا يضيِّعها أبداً. وإنّ أتى أمرٌ من السماء، التفت التطلّع نحو البشر، يرأف بجميعَ حاجاتهم ويحنو على بؤسهم كلّه؛ لابدَّ له من أن يبكي ويُخصِب. إنّه ينير كالنار، ومثل النار يُحرق ويبتلعُ ويلتهم، رافعاً ما التهمه إلى السماء. وحين يُكمِلُ [التطلع ]عملَه على الأرض، ينهض مستعراً بناره فيتابع طريقه إلى العلى.

    التأمّل الثاني

    41- لقد قدِّرَ لنا ما قضاه بتدبيرٍ سابق ذاك الذي يفعل كلَّ شيء على ما ترضى مشيئته، أن نكون تسبحة مجده (أفسس 1/11-12).

    إنما القديس بولس مَن يتكلّم بهذه العبارات، القديس بولس الذي تلقَّى العلمَ من الله نفسه. فكيف نحقِّق هذا الحلمَ، حلمَ قلب إلهنا، هذه المشيئة الثابتة، على نفوسنا؟ وبكلمة واحدة، كيف نستجيب لدعوتنا ونصبحُ تسابيحَ كاملة لمجد الثالوث الأقدس؟

    42- كلّ نفس في السماء هي تسبحةُ مجدٍ للآب والابن والروح القدس، لأن كلَّ نفسٍ ثابتة في الحب الخالص لا تحيا بحياتها الذاتية على الإطلاق، بل تحيا بحياة الله. يقول القديس بولس: عندئذ تعرفه هي كما يعرفُها هو (1قورنتس 13/12). وبعبارات أخرى، يكون إدراكها هو إدراك الله، وإرادتها هي إرادة الله، وحبُّها ذاتَ حبِّ الله. إنّما في الحقيقة يحوِّلُ روحُ الحبِّ والقوة النفسَ كونه كان قد أُعطي لها كي يُكمِل ما هو ناقصٌ فيها، كما يقول القديس بولس أيضاً (رومية 8/26)، فهو يُتمُّ فيها هذا التحوُّلَ المجيد . ويؤكد يوحنا الصليب "أنَّ النفسَ المُستسلمة إلى الحبّ، هيهاتِ ألاَّ ترتفعَ، بقوة الروح القدس، إلى الدرجة التي تكلّمنا عليها، منذ هذه الحياة ! هذا ما أسميه تسبحة المجد الكاملة !

    43- تسبحة المجد هي نفسٌ تقيم في الله، وتحبّه حباً خالصاً ومجرَّداً، من دون أن تبحث عن ذاتها وسط عذوبة هذا الحبّ؛ وتحبّه فوق عطاياه كلِّها، حتى ولو لم تكن قد نالت منه شيئاً، وترغب في خيرِ مَن تكنّ له مثل هذا الحبّ. فكيف ترغب النفس في خيرٍ لله وتريده والحالة هذه، إن لم يكن بإتمام إرادته، كون هذه الإرادة تنظِّمُ جميعَ الأشياء من أجل مجده الأعظم؟ فعلى هذه النفس، إذاً، أن تستسلمَ إلى هذه الإرادة، بملءِ الاستسلام والولع، إلى حدٍّ لا تعود معه تريد شيئاً آخر غيرَ ما يريده الله.

    تسبحةُ المجد، هي نفسٌ تحبّ الصمت، وتكون مثل كنّارةٍ تحت لمسة الروح القدس السرِّية لكيّ تُخرِجَ منها نغماتٍ إلهية؛ وتعرف أن الألم وترٌ يُصدِر أصواتاً أكثر جمالاً؛ فتحبّ أن ترى هذا [الوتر] في آلتها لكي تحرّك بمزيدٍ من العذوبة قلبَ إلهها.

    تسبحةُ المجد هي نفسٌ تشخَصُ إلى الله في الإيمان والبساطة؛ إنها مرآةٌ تعكس كلَّ ما هو عليه؛ إنها شبهُ لجّةٍ بدون قعرٍ، يمكنه أن ينسكب فيها ويتدفَّق؛ وإنّها، كذلك، مثلُ بلورةٍ يمكنه أن يشعَّ من خلاله وأن يتأمل كمالاتِه الخاصّة وبهاءه الخاص. وهي نفسٌ تتيح، هكذا، للكائن الإلهي أن يُشبع فيها حاجته إلى إيصال كلِّ ما هو وكلِّ ما لديه. وهي، في الحقيقة، تسبحةُ مجدٍ لكلِّ عطاياه.

    وأخيراً، تسبحةُ المجد هي كائنٌ دائمُ القيام بأفعال الشكر. وكلُّ واحدِ من أفعال هذا الكائن وحركاته، وكلُّ واحد من أفكاره وطموحاته، هو شبهُ صدًى لترنيمة قدوس السرمديّة، بينما في الوقت عينه، تعمّق جذور هذا الكائن في الحبّ.

    44- في سماء المجد، لا تهدأ النفوس الطوباوية، فهي تقول نهاراً وليلاً: قدوس، قدوس، قدوس، الربّ القدير ... وتجثو ساجدةً للحي أبد الدهور. (رؤيا 4/810).

    و تسبحةُ المجد تبدأ منذ الآن في سماء نفسها، فرضَها الأبدي. ونشيدُها لا ينقطع، لأنها تحت تأثير "الروح القدس الذي يعمل فيها كلَّ شيء" (1 قورنتس 12/11). ومع أنها لا تدرك ذلك دائماً، لأن ضعفَ الطبيعة لا يسمح لها أن تكون ثابتةً في الله بدون شرود، فهي ترتّل دائماً، وتعبد دائماً، مستغرقةً كُلّها في التسبيح والحبّ، في الشغف بمجد إلهها. فلنكن في سماء نفسنا تسبحةَ مجدٍ للثالوث الأقدس: تسبحةَ حبٍّ لأمّنا النقيّة. ويوماً ما، سيسقط الحجاب، وسندخل إلى الرحاب الأبدية، وهناك سنُرَنِّم في حضن الحبِّ اللامتناهي. وسيعطينا الله الاسمَ الجديد الذي وعد به الغالب (رؤيا 2/17) ما عساه يكون ؟

    "تسبحة مجد" نسبة الى ما قاله بولس الرسول (أفسس 1/11) ، وهو الإسم الذي اختارته نهائياً لذاتها الطوباوية إليصابات للثالوُث