الرياضة الروحية الأخيرة للطوباوية اليصابات للثالوث

  • مقدمة
  • اليوم الأول
  • اليوم الثاني
  • اليوم الثالث
  • اليوم الرابع
  • اليوم الخامس
  • اليوم السادس
  • اليوم السابع
  • اليوم الثامن
  • اليوم التاسع
  • اليوم العاشر
  • اليوم الحادي عشر
  • اليوم الثاني عشر
  • اليوم الثالث عشر
  • اليوم الرابع عشر
  • اليوم الخامس عشر
  • اليوم السادس عشر


  • مقدمة

    كانت إليصابات تعلم جيداً أن هذه الرياضة السنوية ستكون الأخيرة قبل أن تذهب لملاقاة حبيبها. وكانت قد وضعت منذ وقت قصير دفتر "السماء في الإيمان" بين يدي الأم جيرمين التي طلبت: "أن تكتب عن لقاءاتها الطيّبة فقط". فكتبت أليصابات رياضتها الأخيرة هذه، ببراءة كُلية، على دفترٍ صغير، وبالحبر، ابتداءً من يوم الخميس الموافق 16 آب/أغسطس، اليوم الأول. ولم تضع أليصابات عنواناً لرياضتها هذه. وقد نُشرت في طبعة "الذكريات" الأولى، سنة 1909.

    لم تكن أليصابات في رياضتها هذه، نظراً الى مرضها، كما كانت عليه من حركة وحيوية في السنوات الماضية. فهي لم تكن تشارك جماعتها في وجبات الطعام، ومع ذلك، لم تكن في عزلة تامة في أثناء النهار، إذ كانت الأخوات الممرّضات يتردَّدن عليها، ويحملن لها الطعام القليل، الذي كانت لا تزال تستطيع تناوله، ويرتِّبن سريرها، وينظِّفن غرفتها ويعتنين بها. وكان الأطباء يزورونها من حينٍ الى آخر. وقد رأت أليصابات والدتها، خلال هذه الفترة، في مُتحدَّث جناح المرضى. وللترفيه عن نفسها كانت تصعد إلى سطح الدير كي تنعم بطقس جميل.

    أمضت أليصابات أيام رياضتها في الصلاة والقراءة والصمت والراحة. وكانت تكتب في المساء، تحت وطأة آلامٍ حادة، على ضوء قنديلها الصغير، الذي يشعُّ بنور الإيمانِ الجميل. امّا صلاتها فكانت صلاة مؤمنة تؤمن بحضورالله يسكن فيها، وبحبٍّ يناديها بحبّ.

    هكذا جاءت صفحات هذه الرياضة كثيفة جداً وغنية، ويمكن الوقوف فيها على أساس سيرة ذاتية، يشرح "حضور الألم في رياضتها الأخيرة، إذ كانت تتألّم بشكل رهيب، وتشعر بأنّ ازدياد ألمها الجسدي ليس إلاَّ تماثلاً بآلام المسيح المصلوب. وهذا يفسّر ما قالته الأم جيرمين عن أنَّ أليصابات: كانت مأخوذةً بحبِّ مُعلِّمها المصلوب حبًّا "إنه حبٌّ محجوبٌ في الصليب".

    وقد شعرت أليصابات للثالوث بنفسها أيضاً، أنها "ابنة الله وعروس المسيح وهيكل الروح القدس". وكانت تبغي السير على طريق حضور الله الرائع، بدون أن تصادف أبداً منعطفاتٍ فيه قد تعطّل مسيرتها نحو حبيبها. هكذا سارت من أورشليم الأرضية إلى أورشليم السماوية، مبهورةً بالواقع الإلهي في الكتاب المُقدَّس". فهذا الالتصاق بالكتاب المقدس، ساعد أليصابات على أن تثبُتَ في الإيمان، مؤكدةً أنها ابنة روحيّة لتريزا الأفيلية ويوحنا الصليب.

    إن رياضة أليصابات الأخيرة "رائعة أدبية"، ولدت عن عطشٍ إلى حقيقة الله، وقلبٍ أكثر ألفةً مع "المصلوب حُباً". إنها صرخةُ حبٍّ أمام "حبّ الله الشديد"، صرخةٌ خرجت من "قاعِ غمرٍ لا قاعَ له": لكأن "نفحةَ الله" انطلقت من قلبِها إلى قلمِها، بتدفُّقٍ عظيم.



    اليوم الأول

    "لم أعرف شيئاً" : هذا ما كانت تردده عروس نشيد الأناشيد، بعد أن أدخلها الملك أخاديره. وهذه عبارة يجب أن تكون بمثابة نافذة تنشدها "تسبحة المجد" في هذا اليوم الأول من الرياضة، حيث يُدخلها المعلم الالهي الى غور اللجة، لكي يفضي اليها بالمهمة التي تُلقى على عاتقها مدى الأبدية. إنه يكاشفها بهذه المهمة، لكي تتمرن عليها منذ الآن في الزمان الذي ما هو إلا الأبدية المبتدئة والمتقدمة دوماً. "لم أعرف" (نشيد الأناشيد 6/11). أجل، إني لا أعرف ولا أريد أن أعرف شيئاً إلا "أن أعرفه هو... وأشترك في آلامه وأتمثل به في موته" (فيلبي 3/10).

    "فالذين اختارهم بسابق اختياره، أعدّهم قديماً لأن يكونوا على مثال صورة ابنه" (روم 8/29) المصلوب حباً بنا. فحينما أصبح مطابقة لهذا النموذج الإلهي، أنا فيه وهو فيّ، حينئذ أكمل دعوتي الأبديّة التي اختارني الله لها "منذ البدء"، تلك الدعوة التي سأقوم بها الى الأبد، فألِج حضن الثالوث لكي أضحي تسبحةً غير منقطعة لمجده (أفس 1/12).

    "إن الله ما رآه أحد قط، الإبن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يوحنا 1/18). ويمكننا أن نردف على ذلك قولنا أن أحداً لم يلج عمقَ سر المسيح إلا العذراء. ويتكلّم القديس بولس مراراً عديدة عن "الخبرة" (أفس 3/4) التي نالها في هذا السر العجيب. ولكن ما أشحبَ نورَ القديسين إزاء أضواء العذراء الساطعة. فلا يوصف السر الذي كانت تحفظه وتتأمّل به في قلبها، ويعسر على اللسان أن ينطق به وعلى اليراع أن يسطره... فهذه أم النعمة الإلهية هي التي ستكيف نفسي لكي تكون ابنتها صورة حيّة وأخاذة لبكرها (قولسّي 1/15) ابن الآب الأزلي الذي كان "تسبحة" كاملة لمجد أبيه.



    اليوم الثاني

    "نفسي في كفيَّ كل حين" (مز 118/109) : هذه كانت العبارة التي يتردد صداها في نفس معلمي الالهي، فكان هادئاً وقوياً في وسط جميع آلامه. "نفسي في كفيَّ كل حين." وهل يعني هذا إلا امتلاك الذات التام في حضور "الهادئ"؟

    وهناك نشيد آخر للمسيح بودّي أن أردّده دوماً وهو : "لك أحفظ قوتي" (مز 58/10). ويقول لي قانوني : "ستكون قوتك في الصمت". فيبدو لي أن الإحتفاظ بالقوة للرب هو أن يحقق الإنسان وحدة في كيانه كله بالصمت الداخلي، وأن يجمع قواه كلها لكي يشغلها في ممارسة المحبة وحدها، وأن يكون له هذه العين البسيطة التي تتيح لنور الله أن يشع فينا.

    فإن النفس التي تجادل "أنا"ها وتنشغل باحساساتها وتلاحق فكرةً لا طائلَ تحتها أو رغبة طارئة، انما تبعثر قواها ولا تكون موجهة الى الله بكليتها: فقيثارتها لا ترنُّ بتناغم، و يستطيع المعلم حينما يلمسها ان يؤدي انغاما الهية، لان فيها الكثير من العنصر البشري الذي يسبب تنافرا في النغم.

    فالنفس التي ما زالت تحتفظ لذاتها بشيء في داخلها، والتي لا تكون جميع قواها محصورة في الله، لا تستطيع ان تكون تسبحة مجد كاملة، ولا يتسنى لها ان تنشد دون انقطاع هذا "النشيد الكبير" الذي يتحدث عنه القديس بولس، لأن الوحدة لا تسود في داخلها. فعوض ان تتابع تسبحتها ببساطة خلال الامور كلها، ترى ذاتها مضطرة دوما إلى جمع اوتار آلتها المبعثرة هنا وهناك.

    آه! كم ان هذه الوحدة الداخلية الجميلة ضرورية للنفس التي تروم العيش منذ الآن عيشة الطوباويين. ويخيّل لي ان المعلم كان يشير الى ذلك حينما كلّم المجدلية عن "الحاجة الى واحد" (لو 10/42). وسرعان ما فهمت هذه القديسة الكبيرة مغزى كلامه، وبنور الايمان عرفت الهها المحتجب تحت ستار الناسوت، وبالصمت وتوحيد قواها "كانت تسمع كلامه" (لو 10/39). واخالها تنشد: "نفسي في كفيّ كل حين"، أو هذه الكلمة الصغيرة: "لم اعرف".

    أجل، انها ما كانت تعرف شيئا سواه. فبامكان الخلائق ان تضج وتعج حولها: "لم اعرف". وبإمكان الناس ان يتهموها ويقرفوها: "لم اعرف". فلا الجاه ولا الامور الخارجية تستطيع ان تخرجها من سكوتها المقدس.

    هذا هو شأن النفس التي ولجت حصن الاختلاء المقدس. انها ترى بعين مضاءة بأشعة الايمان ان الله حاضر وحيُّ فيها، فهي كذلك تمكث حاضرة لديه ببساطة خلاّبة تستهوي قلبه الأبوي، فيحتفظ بها لذاته مغتبطا. واذ ذاك لا يمكن ان تؤثر فيها لا الاضطرابات الخارجية ولا الزوابع الداخلية ولا الشرف الشخصي: "لم اعرف". وبوسع الله ان يتوارى عنها أو ان يحجب عنها نعمته الحسية: "لم اعرف". بل انها في غمرة فرحها تصرخ: "لأجله خسرتُ الاشياء كلها" (فيلبي 3/8).

    ومن ثمة يصبح المعلم الالهي حراً في اعطاء ذاته بمقدار ما يشاء، "حسب مقياسه" (افسس 4/7). والنفس التي بلغت هذه البساطة وحققت هذه الوحدة، تصبح عرشا لملك الدهور، لان الوحدة عرش الثالوث الأقدس.



    اليوم الثالث

    "فيه قُدِّرَ لنا ما قضاه بتدبيرٍ سابق ذاك الذي يفعل كل شيء على ما ترضى مشيئته، فاصطفانا لنسبّح بمجده" (افسس 1/11-12).

    ان الذي يطلعنا على هذا الاختيار الالهي هو القديس بولس الذي توغّل بعيدا في "السر المكتوم طوال الدهور في الله" (افسس 3/9). وهو الآن سيزودنا بأنوار حول الدعوة التي دُعينا اليها.

    "اختارنا الله فيه قبل إنشاء العالم، لنكون قديسين وبغير عيب امامه بالمحبة" (افسس 1/4).

    ومن مقارنة هذين العرضين للتصميم الالهي الثابت مدى الدهور، استنتج اني اذا اردت القيام بجدارة بمهمة "تسبحة المجد"، عليّ ان ابقى "أمامه" خلال كل شيء, يضيف الرسول: "بالمحبة"، أي بالله، "لان لله محبة" (1 يو 4/8). واحتكاكي بالكائن الالهي هو الذي سيجعلني بغير عيب وقديسة في نظرته. واعزو هذا الامر الى فضيلة البساطة الجميلة التي كتب عنها احد المؤلفين الأتقياء: "انها تولي النفس سكينة العمق" اي الهدوء في الله اللجة التي لا يُسبر غورُها. وهذا تمهيد وصدى للراحة الأبدية التي قال عنها القديس بولس: "فلنا نحن المؤمنين دخول دار الراحة" (عبر 4/3).

    وينعم الممجّدون براحة العمق هذه لأنهم يشاهدون الله في بساطة ماهيته. ويقول القديس بولس: "انهم يعرفونه مثلما هم معروفون" (1 قور 13/12)، اي بالرؤية الداخلية وبالنظرة البسيطة. ولهذا ، حسب قول القديس بولس ايضا: "فانهم يتحولون الى تلك الصورة، وهي تزداد مجدا على مجد، وهذا من فضل الرب الذي هو روح" (2 قور 3/18). فيغدون تسبحة مجد دائمة للكائن الالهي الذي يشاهد فيهم جلالَه.

    ويخيّل لي ان بوسعنا ان نولي قلب الله فرحا لا يوصف حينما نعكف في سماء نفسنا على ما يقوم به الطوباويون، فننضّم اليه بهذه المشاهدة البسيطة التي تقرّب الخليقة من حالة البرارة التي خلقها الله فيها.

    "على صورة الله ومثاله" (تك 1/26). فكان اذاً حلم الخالق أن يتأمل ذاته في خليقته، فيرى انعكاس جماله وكمالاته كلها فيها كفي بلّورٍِ صافٍ وبغير شائبة. اليس هذا نوعا من امتداد مجده؟

    فبالنظرة البسيطة الموحدة التي بها تحدق النفس الى الله، تجد ذاتها منفصلة وغريبة عن كل ما يحيط بها، ولا سيما عن ذاتها، ومن ثمة فإنها تشرق من "معرفة مجد الله"، كما يقول الرسول (2 قو 4/6)، لأنها تتيح للكائن الالهي ان ينعكس فيها وان تتلقى جميع صفاته. انها تصبح حقا تسبحةً تذيع مجد مواهب الله، وهي لا تفتأ تتغنىّ، حتى في اصغر اعمالها، بالتسبحة العظيمة، "التسبحة الجديدة" (رؤيا 14/13) التي يهتز الله لها في اعماقه.

    ان نفسا كهذه لجديرة بهذا الوصف الرائع الذي ورد في اشعيا: "يشرق نورك في الظلمة ويكون ديجورك كالظهر. ويهديك الرب في كل حين، ويشبع نفسك في الارض القاحلة، ويقوي عظامك، فتكون كجنة ريا وكمخرج مياه لا تنقطع...وانا اوطئك مشارف الارض" (اش 58/10-14).



    اليوم الرابع

    أمس كشف لي القديس بولس النقاب قليلا، فاستطعت ان ألقي نظرةً على "ميراث القديسين في النور" (قول 1/12) لأرى ما دأبهم، فأحاول قدر المستطاع ان اطابق حياتي على حياتهم، فأقوم بمهمتي التي هي "تسبحة المجد".

    أما اليوم، فهوذا القديس يوحنا، التلميذ الذي كان يسوع يحبه، يفتح لي بدوره ابواب "المداخل الابدية" (مز 23/7) قليلا، لكي اريح نفسي في اورشليم المقدسة، رؤية السلام العذبة. فيقول لي في بادىء الأمر ان "لا حاجة للمدينة الى ضياء الشمس والقمر، لان مجد الله اضاءَها والحمل قامَ مقام مشعلِها" (رؤيا 21/23).

    فإن اردتُ ان يكون لمدينتي الداخلية بعض الشبه بمدينة "ملك الدهور الخالد" (ا طيم 1/17)، وان تتلقى نور الله العظيم، عليّ ان اطفىء كل نور آخر، ليكون الحملُ مشعلها الوحيد.

    هوذا الايمان يلوح لي بنوره الرائع. فهو وحده يقودني وينير لي السبيل للذهاب الى لقاء العريس. فالمزمور يقول ان العريس "جعل الظلمة حجابا له" (مز 17/13). وكأنه يناقض نفسه اذ يقول في موضع آخر: "انه يلتحف بالنور كرداء" (مز 103/2). أما ما أستنتجه من هذا التضاد الظاهري، فهو انه عليّ أن أخوض في هذه الظلمة المقدسة، فاجعل في جميع قواي ليلا وخلاء، واذ ذاك ألاقي سيدي، فيغمرني ذلك النور الذي يلتحف به كرداء، لانه يريد ان تكون عروسه مضاءة بنوره لا غير، وان "يكون لها مجد الله" (رؤيا 21/11).

    يقال عن موسى انه كان "غير متزعزع في ايمانه وكأنه رأى اللامنظور" (عبر 11/27). ويخيل لي ان هذا يجب ان يكون موقف "تسبحة المجد" التي تريد ان تتابع نغمات شكرها خلال كل شيء، اي ان تكون غير متزعزعة في ايمانها وكأنها رأت اللامنظور، راسخة في ايمانها بمحبة الله العظيمة: "ونحن عرفنا محبة الله لنا وآمنا بها" (1 يو 4/16).

    ويقول القديس بولس: "ان الايمان ضمانُ الخيرات التي تُرجى وبرهانُ الحقائق التي تُرى" (عبر 11/1).

    فالنفس التي جمعت حواسها تحت النور الذي اطل عليها من هذه الكلمة، ماذا يعنيها بعد ان تحس أو ان لا تحس، أن تكون في الظلام او ان يغمرها النور، ان تتنعم أم لا؟ وانها ليعتريها الخجل اذ تميّز بين هذه الامور، فتُنحي باللائمة على ذاتها لقلة محبتها. وسرعان ما تتجه الى معلمها الالهي مستغيثة به لكي ينقذها ويحطم الاغلال المتبقية فيها. "فهي ترفعه، حسب تعبير متصوف كبير، في اعلى ذروة من طور قلبها"، اي فوق المسرّات والتعزيات الآتية منه. فإنها قد عزمت على تجاوز كل شيء بغية الاتحاد بذاك الذي تحبه.

    ويبدو لي ان ما قاله زعيم الرسل: "وبما انكم تؤمنون فسوف تبتهجون بفرح ممجد لا يوصف" (1 بط 1/8) يمكن ان يوجَّه الى هذه النفس غير المتزعزعة في ايمانها بإله المحبة.



    اليوم الخامس

    "رأيت فاذا بجمع كثير لا يستطيع احد ان يحصيه... هؤلاء الذين اتوا من الضيق الشديد وقد غسلوا حللهم وبيّضوها بدم الحمل. لذلك هم امام عرش الله يخدمونه في هيكله نهارا وليلا. والجالس على العرش يظللهم بسرداقه. فلن يجوعوا ولن يعطشوا ولن تلفحَهم الشمس ولا السموم. لان الحمل الذي في وسط العرش يرعاهم ويهديهم الى ينابيع ماء الحياة، ويمسح الله كل دمعة تسيل من عيونهم" (رؤيا 7/9، 14-17).

    لا غروَ أن جميع هؤلاء المختارين الحاملين بأيديهم سعف النخل والذين يغمرهم نور الاله قد اجتازوا قبلا بالضيق الشديد واختبروا "الالم العظيم مثل البحر" (ارميا – المراثي 2/13). فقبل أن يتأملوا مجد الرب بوجوه مكشوفة (2 قور 3/18)، قد اشتركوا في أوهان مسيحه. وقبل ان يتحولوا من مجد الى مجد الى صورة الله، قد تشبهوا بصورة الكلمة المتجسد المصلوب حبا بنا.

    فلا مناص للنفس من الاشتراك حقا في آلام معلمها اذا شاءت ان تخدم الله في هيكله ليلا ونهارا، في هذا المقدس الداخلي الذي يتكلم عنه القديس بولس حينما يقول: "لأن هيكل الله مقدس وهو انتم" (1 قور 3/17). انها نفس مشتراة، وعليها ان تسعى بدورها في شراء نفوس اخرى. لذا فهي لا تفتأ من ان توقع على قيثارتها هذا اللحن: "أما انا فحاشا لي ان افتخر الا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلا 6/14)، "لاني صُلبتُ مع المسيح" (2/9)، و"أتمّ في جسدي ما نَقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (قول 1/24).

    "قامت الملكة عن يمينك" (مز44/11): هذا هو موقف تلك النفس. فهي تسير لي طريق الجلجلة عن يمين ملكها المصلوب والمحتقر والمهان. ولكن هذا الملك يبقى رغم ذلك قويا وهادئاً دوما. انه يمضي الى الآلام بجلال، لكي يفجّر "مجد نعمته"، حسب تعبير القديس بولس الرائع (افس 1/6).

    انه يريد ان يرى عروسه في عمله الخلاصي. وطريق الآلام الذي تسلكه هو لها بمثابة طريق السعادة، ليس لانه يؤدي الى السعادة وحسب، بل لأن المعلم الحبيب يفهمها كيف يجب ان تتجاوز ما في الالم من المرارة لكي تجد فيه سلامها على غراره.

    حينئذ يمكنها ان تخدم الله في هيكله ليلا ونهارا. فلا المصائب الخارجية أو الداخلية يمكنها ان تخرجها من الحصن المقدس حيث أدخلها الحبيب، ولا تحس بعد بجوع أو بعطش رغم شوقها المذيب الى السعادة، اذ انها تجد قوتها في طعام سيدها: في ارادة الآب. ولا تلفحها الشمس، اي انها باتت لا تمرضها الآلام. وباستطاعة الحمل ان يرعاها ويهديها الى ينابيع ماء الحياة حيث يشاء وكما يشاء، فان عينيها شاخصتان الى الراعي الذي يهديها ولا يخطر ببالها ان تلقيهما على السبيل التي تسير فيها.

    وحينما ينحني الله وينظر الى هذه النفس التي تبنّاها، يلاحظ فيها وجهَ الشبه شديدا لصورة ابنه "بكر الخلائق كلها" (قول 1/15). انه يرى فيها واحدة من تلك النفوس التي سبق فاختارها ودعاها وبرّها. فتبتهج احشاؤه الأبوية طرباً ويفكر في إنجاز عمله، اي في تمجيدها بنقلها الى ملكوته حيث يُُتاح لها ان تُنشد بغير انقطاع تسبحة مجده مدى الدهور.



    اليوم السادس

    "ورأيت حملا على جبل صهيون يصحبه اربعة واربعون الفا ومائة الف كُتب على جباههم اسمُه واسمُ ابيه، وسمعت صوتا آتيا من السماء كخرير مياه غزيرة أو كدويّ رعد قاصف. وجعلني هذا الصوت أتخيّل لاعبين بالكنارة يربون على كنارتهم ويرتلون انشودة جديدة بين يدي العرش... وما من احد يستطيع ان يتعلم الانشودة الاّ الأربعة والأربعون الفاً ومائة الألف... لأنهم أبكار. هؤلاء هم الذين يصحبون الحمل كيفما سار" (رؤيا 14/1-4).

    ان من الخلائق من هم منذ الآن من عداد هذا الجيل الطاهر مثل النور، فيحملون من الآن على جباههم اسم الحمل واسم ابيه. انهم يحملون اسم الحمل بالتشبه والتمثل بذاك الذي يدعوه القديس يوحنا "الامين والحقيقي" والذي يظهره لنا لابسا رداءً مخضباً بالدم. فهم ايضا أمَناء حقيقيون ورداؤهم مخضّب بدم تضحيتهم المتواصلة. وهم يحملون اسم أبيه، لأنه يعكس فيهم بهاء كمالاته واوصافه الالهية كلها، فيصبحون كأوتار تهتز وترتل التسبحة الجديدة.

    انهم يتبعون الحمل كيفما سار، ليس على الطريق الرحبة والسهلة وحسب، بل في المسالك الوعرة والشائكة ايضاً، لأنهم أبكار، أي أحرار منـزّهون ومتجردون... "فهم منـزّهون عن كل شيء الا عن المحبة"، منفصلون عن كل شيء ولا سيما عن ذواتهم، مجردون من كل شيء في النظام الفائق الطبيعة كما في النظام الطبيعي. أي تجرد وأي موت عن الذات يقتضي هذا الأمر! فلنقل مع القديس بولس: "إني اموتُ كلَّ يوم" (ا قور 15/31).

    وقد كتب هذا القديس الكبير ايضا الى اهل قولسي يقول: "فانكم قد متم وحياتكم محتجبة مع المسيح في الله" (3/3). فينبغي اذن ان نكون امواتا، اذ بدون هذا الشرط قد نكون محتجبين في الله احيانا، ولكننا لا نعيش في الله بنوع اعتيادي ودائم، لان كل الاحساسات والاغراض الشخصية وما شاكلها تداهمنا وتخرجنا من حوزة الله.

    فالنفس التي تحدّق الى معلّمها الالهي بالعين البسيطة التي تنير الجسد كله تُصان من "مصدر الإثم الذي فيها" (مز 17/26) اذ ان الرب قد ادخلها الى المنزل الرحب الذي ليس سوى الله، وهناك كل شيء طاهر ومقدس.

    فما اسعد الموت في الله! وما اعذب الاستسلام الى الخير المحبوب! انها لحلاوة تنفجر بصرخة صادرة من اعماق القلب: "قد صُلبت مع المسيح. فما انا احيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ. واذا كانت لي حياة بشرية، فانها بالإيمان بابن الله الذي أحبني وضحّى بنفسه من أجلي" (غلاط 2/19-20).



    اليوم السابع

    "السموات تنطق بمجد الله" (مز 18/2). فما تنطق به السموات هو مجد الله. وبما ان نفسي سماء اعيش فيها بانتظار اورشليم العليا، فيجب على هذه السماء ان تنطق هي ايضا بمجد الله السرمدي وحده.

    "النهار للنهار يعلن أمره" (مز 18/3). فكل الانوار وكل التعاليم التي يمنحها الله نفسي ان هي الا هذا النهار الذي يعلن رسالة مجده الى النهار. "لان اوامر الرب وضاءة تنير العيون" (مز 18/19). فأمانتي في تطبيق هذه الأحكام الإلهية وكل أوامرها الداخلية تجعلني أعيش في النور: وهذه ايضا رسالة تعلن مجده.

    وهوذا الامر العجيب الذي يفيض عذوبة: "الرب الذي ينظر اليك يستنير" (مز 33/6). فالنفس التي تتأمل خلال كل شيء، بعمق نظرها الداخلي، الهها المنزّه عن كل ما سواه، تصبح مشرقة، وهي من ثمة نهار يعلن لنهار رسالة مجده، و"ليل لليل يذيع خبره" (مز 18/3). وهذا امر يفعمني تعزية، اذ ان عجزي وسأمي وظلامي واخطائي نفسها تذيع مجد العلي. وعذاباتي النفسية أو الجسدية كذلك تذيع مجد الله.

    وكان داود ينشد: "بماذا أكافىء المولى على كل ما اتاني من افضال؟ سآخذ كأس الخلاص" (مز 115/12-13). فاذا اخذت هذه الكاس المصبوغة بدم معلمي الالهي، وفي غمرة شكري مزجت دمي بدم الذبيحة المقدسة التي تشركه في لانهايتها، حينذاك يمكن هذه الكأس أن تولي الآب مجداً عظيماً، فيصبح عذابي قولاً يذيع مجد العلي.

    "فهناك (أي في النفس التي تذيع مجده) نصب للشمس خيمة "فالشمس هي الكلمة، هي العريس. واذا وجد نفسي خالية ومجردة من كل شيء الا من هاتين الكلمتين: محبته ومجده، فهو يختارها لتكون خدرا يدخله "كالجبار في السباق"، ولا يمكنني "ان اتوارى عن حره" (مز 18/6-8). فهو تلك "النار الآكلة" (عبر 12/29) التي تنجز التحويل السعيد الذي وصفه القديس يوحنا الصليبي بقوله: "كل واحد يبدو وكأنه الآخر، الا ان كليهما ليسا الا واحداً يذيع تسبحة مجد الآب".



    اليوم الثامن

    "وهم لا ينفكّون يقولون ليل نهار: قدوس، قدوس، قدوس الرب الاله المهيمن: كان وكائن ويأتي...ويجثون...ويسجدون...ويلقون اكاليليهم عند العرش قائلين: لك يحق يا ربنا والهنا ان تلقى المجد والاكرام والقدرة..." (رؤيا 4/8، 11،10).

    فكيف أقتدي في سماء نفسي بعمل القديسين هذا المستمر في سماء المجد؟ كيف اتابع هذه التسبحة وهذا السجود غير المنقطعين ؟ هوذا القديس بولس يُغيثني وينيرني بما كتبه الى أهل افسس "ليؤيدكم (الآب) بروحه على مقدار سعة مجده، ليقوى فيكم الانسانُ الباطن، وأن يقيم المسيح في قلوبكم بالايمان، حتى اذا ما تأصّلتم في المحبة وأسِّستم عليها..." (3/16-17). لئن اتأصل وأتأسس في المحبة، فذلك هو الشرط الاول لكي اقوم حسنا بمهمة تسبحة المجد.

    فالنفس التي تدخل وتستقر في اعماق الله (1 قور 2/10) وتعمل كل شيء "به ومعه وفيه" بنظرة صافية تجعلها شبيهة بالكائن البسيط، انما تتأصل أكثر فأكثر في ذاك الذي تحبه بكل رغبة من رغباتها وبكل حركة من حركاتها وبكل عمل من أعمالها، مهما كانت اعتيادية. فكل ما فيها يعطي المجد لله القدوس. وكأني بها تصبح "قدوسا" أبديا وتسبحة مجد غير منقطعة.

    "إنهم يجثون ويسجدون ويلقون أكاليلهم". ففي بادىء الأمر، على النفس ان تجثو، أي ان تغوص في عمق عدمها وتنـزل الى حيث تجد "السلام الحقيقي غير المقهور والكامل الذي لا يعكر صفاءه شيء، فتلقي بنفسها الى هوة هي من العمق بحيث انه ليس من يذهب ويفتش عنها هناك" كما يقول احد المتصوفين. وحينئذ يمكنها ان تسجد.

    السجود!... ويا لها من كلمة سماوية! يبدو لي اننا يمكننا تحديده بقولنا انه انخطاف المحبة. فحينما تُؤخذ المحبة بجمال المحبوب وبقوته وعظمته اللامتناهية، تسقط في انخذال وفي سكوت شامل عميق، ذلك السكوت الذي يصفه المزمر بقوله:"السكوت هو تسبحتك". اجل انها اجمل تسبحة، لأنها تلك التي يُترنَّم بها منذ الأزل في حضن الثالوث الهادىء، وهي ايضا آخر جهد تبذله النفس التي تضيق ذرعا بوصف الحبيب، فتبقى صامتة لا تنبس ببنت شفة.

    وهناك مزمور يقول: "مجدوا الرب الهنا واسجدوا امام جبل قداسته، لان الرب الهنا قدوس" (مز 98/9)، وآخر يقول: "يسجدون له دائما من اجل اسمه" (71/15). فالنفس التي تختلي بهذه الأفكار وتستوعبها "بفكر الرب" (روم 11/24) تعيش في سماء مسبقة فوق الاشياء التي تزول وفوق السحب وفوق ذاتها.

    فهي تعرف ان الذي تسجد له يملك في ذاته كل سعادة وكل مجد، فتلقي اكليلها في حضوره مثل الطوباويين، وتحتقر نفسها وتنسى ذاتها وتجد سعادتها في سعادة معبودها بين كل عذاب وألم، لأنها تركت ذاتها، بل تحوّلت إلى شخصٍ آخر. وفي هيئة السجود هذه، تشبه النفس تلك الآبار التي يتكلم عنها القديس يوحنا الصليبي والتي تقبل المياه المنحدرة من لبنان. ويمكننا ان نقول عن تلك النفس: "ان جداول النهر تفرح مدينة الله" (مز 45/5).



    اليوم التاسع

    "كونوا قديسين لأني أنا الرب إلهكم قدوس" (أحبار 19/2) فمن ذا الذي يمكنه أن يصدر أمراً كهذا ؟ إنه أوحى لنا باسمه، هذا الإسم الذي ينفرد به، والذي لا يملكه أحد سواه: "فقال الله لموسى: أنا هو الكائن" (خروج 3/14)، الحي وحده ومصدر الكائنات كلها: "إذ به نحيا ونتحرك ونوجد" (اع 17/18).

    "كونوا قديسين لأني انا قدوس". يبدو لي أنها الإرادة عينها التي أظهرها في بدء الخليقة حينما قال :"لنصنع الانسان على صورتنا كمثالنا" (تك 1/26). إن رغبة الخالق هي دوماً أن يشرك ويوحّد خليقته معه.

    وفي هذا الصدد يقول القديس بطرس: "إننا شركاء الطبيعة الالهية" (2بط 1/4). ويوصينا القديس بولس أن نكون "حافظين بداءة القيام فيه" (عبر 3/14). ويقول التلميذ الحبيب بدوره: "أيها الاحباء، نحن منذ الآن أبناء الله، وما كُشف لنا بعد عما نصير إليه، نحن نعلم أننا نصبح عند هذا الكشف أشباهه، لأننا نراه كما هو. من كان يرجو منه هذا الرجاء، طهرَ نفسه كما أنه هو طاهر" (1 يو 3/2-3).

    فيبدو أن مقياس أبناء الله هو أن يكونوا قديسين كما أن الله قدوس. ألم يقل المعلم :"كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل"(متى 5/48)؟ وحينما وجه الرب الكلام إلى ابراهيم، قال له: "أسلك امامي وكن كاملا" (تك 17/1). فهذه وسيلة للبلوغ إلى الكمال الذي يطلبه منا أبونا السماوي. والقديس بولس، بعد أن غاص في لجة التدابير الإلهية، يطلعنا على ذلك بقوله: "اختارنا (الله) فيه قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين وبلا عيب في المحبة" (افسس 1/4). فعلى أنوار تعاليم هذا القديس سأسير قدماً في الطريق البديعة الحافلة بحضور الله، حيث تسير النفس "وحيدة مع الوحيد"، وتقودها "قوى الخلاص التي في يمينه" (مز 19/7). إذ إنه "بريشة يظللك... فلا تخشى في الليل هولاً، ولا سهما يطير في النهار، ولا وبا يسري في الدجى، ولا داهية تهلك ظهرًا" (مز 90/4-6).

    "فانبذوا عنكم سيرتكم الاولى، واخلعوا الإنسان القديم الذي تفسده الشهواتُ الخادعة، وتجددوا روحاً وذهناً، والبسوا الإنسان الجديد الذي خُلقَ على صورة الله في البر وقداسة الحق" (افس 4/22-24).

    ... هوذا قد اختُط الطريق، فما علينا إلا أن نتجرد من ذواتنا لكي نسير فيه كما يريد الله. التجرد، الموت عن الذات ونسيانها : أليست هذه فكرة المعلم الإلهي حينما قال: "من أراد أن يتبعني، فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (متى 16/24)؟

    ويقول الرسول: "إن حييتم حياة الجسد تموتون، أما إذا أمتُّم بالروح أعمال الجسد فستحيون" (روم 8/13). هذا هو الموت الذي يطلبه الله، وعنه يقول: "قد ابتلعَ الظفرُ الموت" (1 قور 15/45)، و"أكون هلاكَكَ أيها الموت" (هوشع 13/14)، وكأني بالله يقول: أيتها النفس ابنتي المحبوبة، انظري اليّ فتنسي ذاتك، انسابي بكليتك في كياني وهلمي فموتي فيّ لكي أحيا أنا فيك!...



    اليوم العاشر

    "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل" (متى 5/48). حينما يُسمعني معلمي الإلهي هذه الكلمة في أعماق نفسي، أخاله يطلب إلي أن أعيش مثل الآب في "حاضر ابدي"، دون قبل وبعد، بل بكليتي في وحدة كياني في هذا "الآن" الابدي.

    وما عساه أن يكون هذا الحاضر؟ هوذا داود يجيبني: "يسجدون من أجل ذاته" (مز 71/15). وكأني به يطلعني على هذا الحاضر الأبدي الذي يجب على تسبحة المجد ان تحيا فيه. ولكي تكون صادقة في موقفها هذا، فيتاح لها أن تنشد: "كي أوقظ الأسحار" (مز 56/9) يجب أن يكون بوسعها أن تقول مع القديس بولس: "من أجله خسرتُ كلَّ شيء" (فيلبي 3/8)، أي من أجله، ولكي استطيع السجود له دائما، قد انعزلت وتجردت وانفصلت عن ذاتي وعن الأشياء كلها في النظام الطبيعي، وحتى عن مواهب الله في النظام الفائق الطبيعة. فإن النفس التي لا تكون متلاشية ومعتقة من ذاتها، ستكون حتماً تافهة وطبيعية أحيانا، وهذا ما لا يليق بابنة الآب وعروس المسيح وهيكل الروح القدس.

    ففي سبيل تلاقي هذه الحياة الطبيعية، على النفس أن تكون مستيقظة في إيمانها وشاخصة بنظراتها الرقيقة إلى معلمها الإلهي. وإذ ذاك يمكنها أن تسير "على براءة وجدانها في داخل بيتها"، كما ينشد المزمور (مز 100/2)، وتسجد أبدا لإلهها لأجل ذاته، فتعيش بذلك على صورته في الحاضر الأبدي الذي يحيا فيه.

    "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل". ويقول القديس ديونيسيوس إن الله هو "المتوحد الاكبر". ويطلب إلي معلمي أن اقتدي بهذا الكمال، وأن أكرمه بكوني منعزلة كبيرة. فالكائن الإلهي يعيش في عزلة أزلية عظيمة، ولا يخرج منها، مع كونه يهتم باحتياجات خلائقه. فإنه لا يخرج من ذاته قط، وهذه العزلة ليست سوى لاهوته المجيد.

    ولئلا يخرجني شيء من هذا الصمت الداخلي الجميل، عليّ ان أحقق في ذاتي تلك العزلة وذلك الإنفصال وذلك التجرد، وعبثا أحاول أن أاصبح منعزلة إن لم تكن أشواقي ومخاوفي وآلامي وما ينجم عنها، متجهة كل الإتجاه نحو الله، واذا لم أخلد إلى الهدوء ولم أخمد قواي وأوحد كياني، أراني فريسة مستساغة للضوضاء.

    "اسمعي يا بنتُ وانظري وأرهفي أذنك. انسي شعبك وبيت أبيك، فيصبو الملك إلى حسنك" (مز 44/11-12). يبدو لي ان في هذا الكلام دعوة صريحة إلى السكوت: اسمعي...ارهفي اذنك... ولكن لكي اسمع، يترتب عليّ أن أنسى بيت أبي، أي كل ما يتعلق بالحياة الطبيعية التي عنها يتكلم القديس بولس حينما يقول: "إن حييتم حياة الجسد تموتون" (روم 8/13). ولكن الأصعب من ذلك هو أن ننسى شعبنا. لأن هذا الشعب هو كل هذا العالم الذي يكتنفنا والذي يؤلف جزءاً من كياننا: إنها الإحساس والذكريات والإنطباعات...، وبكلمة واحدة "الأنا". علينا أن نتخلى عن أنانـا وننساه، وحينما تصير النفس إلى هذا التجرّد، وتتحرر، حينذاك يصبو الملك إلى جمالها. لأن قوام الجمال بالوحدة في التناسق، وهذا أمر يتحقق بأعلى درجة في الله.



    اليوم الحادي عشر

    "إلى رحاب الفرح أخرجني، خلّصني لأنه يحبني" (مز 17/20). لما ألقى الخالق نظرة على خليقته وألفاها مختلية في عزلتها الداخلية وقد خيّم السكوت على كيانها، هام بجمالها فأدخلها الى العزلة الكبيرة واللامتناهية، إلى الرحاب التي يذكرها المزمور. وهذا الموضع ليس إلا الله نفسه: "أدخل في جبروت السيد الرب" (مز 70/16).

    ألم يقل الرب على لسان نبيه هوشع: "آتي بها الى البرية وأخاطبُ قلبَها" (2/14)؟ فها هي ذي النفس تدخل العزلة الرحبة حيث يسمعها الله صوته: "إن كلام الله حيّ ناجع، أمضى من كل سيف ذي حدين، يصل في نفاذه الى ما بين النفس والروح والأوصال والمخاخ" (عبر 4/12).

    فكلمة الله هي التي تحقق رأساً هذا التجرد في النفس، لأنها تستطيع أن تنجز وتخلق ما توحي به، شريطة أن تكون النفس راضخة ومستسلمة إلى عملها الخلاق.

    ولا يكفي سماع هذه الكلمة وحسب، بل على النفس أن تحفظها فتتقدس بالحق حسب رغبة المعلم الإلهي: "قدّسهم بحقك، إن كلمتك هي الحق" (يو 17/17). ألم يَعد من يحفظ كلامه قائلا: "أبي يحبه وإليه نأتي وعنده نجعل مقامنا" (يو 14/23)؟

    فالنفس التي تحب الرب بالحق وتحفظ كلمته، تصبح مقراً للثالوث الأقدس كله. وما ان أدركت غناها حتى تدعوها جميع الأفراح، الطبيعية منها والفائقة الطبيعة، إلى العودة إلى ذاتها لكي تنعم بالله الخير الجوهري الذي أصبح الآن في حوزتها. وإذ ذاك لا تعتم النفس أن تحصل على التشابه مع الكائن السرمدي، كما يقول القديس يوحنا الصليبي.

    "كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي هو كامل". ولكن هوذا القديس بولس يقول لي أن الله "يفعل كل شيء على ما ترضى مشيئته" (افس 1/11). أليست هذه دعوة يوجهها اليّ المعلم الإلهي لكي "أفعل أنا أيضا كل شيء على ما ترضى مشيئتي"، فلا أندفع وراء حواسي، ولا أنقاد إلى حركات الطبيعة ونزواتها بل أن تقودني إرادتي الموجّهة إلى الله؟ ولكي تكون هذه الإرادة حرة، عليّ أن أدمجها في إرادة الله، فأصبح إذ ذاك "منقادة إلى روح الله" (روم 8/14)، فلا أعمل إلا ما هو إلهي وأزلي. وهكذا يتاح لي أن أحيا في هذا العالم في حاضر أبدي مثل حبيبـي السرمدي.



    اليوم الثاني عشر

    "الكلمة صار بشرا فسكن بيننا" (يو 1/14). سبق الله فقال: "تقدسوا فإني أنا قدوس". ولكن أنّى للخليقة أن تقتدي به وهو مختفٍ في علياءِ سمائه؟ إنها تصبو إلى نموذج تتجسد فيه القيم الخالدة، فتحيا حياته وتقتفي آثاره، فتتحرر من ادران الحياة الحاضرة وتسمو اليه وتتقدس بقداسته.

    "لأجلهم أقدس ذاتي، ليكونوا هم ايضا مقدسين بالحق" (يو 17/19). فأنا الآن أمام السر الخفي عن الدهور والأجيال، سر المسيح الذي صار لنا "رجاء المجد" (قول 1/27)، كما يقول القديس بولس ويضيف هذا الرسول أنه أوتي معرفة هذا السرّ (افس 3/4). فعليّ أن اتخذه لي رائدا يقودني إلى معرفة محبة المسيح يسوع التي تفوق كل معرفة (افس 3/19).

    وبادىء ذي بدء يقول لي الرسول إن المسيح سلامي (افس 2/14) وإن "به لي سبيلا إلى الآب" (افس 2/18)، "فقد شاء الآب أن يحل به الكمال، وبه شاء أن يصالح كل موجود...سواء في الارض والسموات. فهو الذي حقق السلام بدمه على الصليب" (قول 1/19-20). ويواصل الرسول قوله: "فيه تدركون الكمال...لأنكم دُفنتم معه في المعمودية، وأُقمتم معه أيضا، لأنكم آمنتم بقدرة الله الذي أحياكم معه وصفح لكم عن جميع زلاتكم، ومحا ما كان عليكم من صك للوصايا، وألغاه مسمراً إياه على الصليب، وخلعَ أصحاب الرئاسة والسلطة وعاد بهم في ركبه ظافرا" (قول 2/10،12-15) وذلك "ليجعلكم في حضرته قديسين لا ينالكم عيب ولا لوم" (قول 1/22).

    هذا هو العمل الذي ينجزه المسيح في كل نفس ذات إرادة صالحة، وهو العمل الذي تدفعه محبته المفرطة إلى إجرائه في نفسي أيضا.

    أجل، إنه يريد أن يصبح سلامي، حتى لا يقوى شيء على انتزاعي من حصن الإختلاء المنيع. وهناك، في مأمن من ضوضاء العالم، يضمني الى الآب، فأبقى ثابتة مطمئنة في حضرته وكأن نفسي في الابدية. فإنه بدم صليبه يسالم كل شيء في سمائي الصغيرة لكي تغدو مستقرا للثالوث الاقدس... ويملأني من ذاته ويخفيني فيها وينعشني بحياته: "حياتي هي المسيح" (فيلبي 1/21).

    حتى وإن سقطت كل حين، فإني استنجده بإيمان واثق ليقيلني من عثرتي. وإني لعلى يقين من أنه يغفر لي ويمحو كل شيء بغيرة محبته. وبالإضافة إلى ذلك، فإنه يحررني من شقائي وينجيني من بؤسي ومن كل ما يضاد عمله الإلهي. فتضحي إذ ذاك قواي أسيرة له ومغلوبة على أمرها. فأختفي فيه، ويحق لي أن أقول: "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيّ" (غلاط 2/20)، وسأكون "قديسة ونقية بغير عيب" أمام عيني الرب.



    اليوم الثالث عشر

    "ويجمع في المسيح كل شيء" (افس 1/10). هنا أيضا استرشد أنوار القديس بولس الذي اوغل في مشورة الله العظيمة، فآلى على نفسه ان يجدد كل شيء في المسيح.

    ولكي استوعب هذا التصميم الإلهي أراني بحاجة أيضا الى مساعدة الرسول الذي يبادر إلى نجدتي ويسنُّ لي قانونا أسير بموجبه: "اسلكوا في الرب يسوع وتأصلوا فيه وتأسسوا عليه واعتمدوا على الايمان الذي تلقيتموه واكثروا من الشكر" (قول 2/6-7).

    "اسلكوا في الرب يسوع". يبدو لي أن هذا يعني أن اخرج من ذاتي وأنسى ذاتي وأتخلى عنها، لكي أتغلغل فيه في كل دقيقة وأتأصل فيه بعمق بحيث يتسنى لي في كل حدث أو أمر أن اطلق هذا التحدي وأقول: "من يفصلني عن محبة المسيح؟" (روم 8/35).

    فمتـى ما كانت النفس متأصلة في المسيح بحيث تكون جذورها قد انغمست فيه، حينذاك يتدفق النسغ الإلهي فيها بغزارة ويفني ما تبقى فيها من الحياة الطبيعية الناقصة والتافهة "حتى تبتلع الحياة ما هو زائل فينا"، كما يقول الرسول (2 قور 5/4).

    هكذا فإن النفس التي تجرّدت من ذاتها وتوشّحت بيسوع المسيح لا تخاف بعد من احتكاكها بالخارج، ولا تخشى الصعوبات الداخلية التي تتراكم عليها. فهذه الامور التي تنتابها إنما تزيدها ثباتا في محبة معلمها، ولم تعد لها موانع في سيرها اليه. فإنها مستعدة "للسجود له دوما لأجل اسمه" في كل شيء ورغم كل شيء. كيف لا وقد أخلت ذاتها وتحرّرت منها ومن كل شيء، فتهيأ لها الآن ان تنشد مع المزمر: "إذا اصطفَّ عليَّ عسكر فلا يخاف قلبي، وإن نشَب عليّ قتال بقيتُ آمنا مطمئنا... لانه في خيمته يخبئني" (مز 26/ 5،3). وليست هذه الخيمة سواه. ويخيل لي ان هذا ما يريد القديس بولس أن يقوله بهذه العبارة: "تأصلوا في المسيح".

    ولكن كيف نكون "متأسسين عليه؟" هوذا الملك المزمِّر ينير لنا السبيل بقوله: "وعلى الصخرة يُعليني، لذا يرتفع رأسي على أعدائي من حولي" (مز 26/5-6). ويخيل لي أن هذا رمز للنفس المتأسسة على يسوع المسيح. فإنه الصخرة التي عليها ترتفع النفس فوق ذاتها والحواس والطبيعة، فوق التعزيات والأحزان، وفوق كل ما ليس الله وحده. وهناك، في حوزة الله، تقهر النفس ذاتها وتتجاوز ذاتها وكل الاشياء.

    ويوصيني القديس بولس ان اكون ايضا "مثبتة في الإيمان"، في هذا الإيمان الذي لا يجيز للنفس أن تتوانى، بل يجعلها يقظةً تحت نظرة المعلم ومصغية بكليتها إلى كلمته الخلاقة. إنه ايمان حيّ "بالمحبة العظمى" يفسح المجال لله أن يغمر النفس بملء حبه.

    أخيرا يريد مني الرسول "أن أكثر من الشكر" الذي به ينتهي كل شيء. "أشكرك يا أبتاه!" (يو 11/41). هذا ما كانت تنشده نفس المسيح، وهو يحب أن يسمع صداه في نفسي. ولكن يبدو لي أن التسبحة الجديدة التي تسحر قلب إلهي هي تسبحة نفس متجردة من ذاتها، إذ فيها يمكن أن تنعكس ماهيته كلها وأن يفعل ما يشاء. إنها له بمثابة كنارة مهيأة لإيقاعه متى ما شاء، وكل مواهبها بمثابة أوتار ترن منشدة "تسبحة مجده" ليل نهار.



    اليوم الرابع عشر

    "أعدُّ كلّ شيء خسرانا من أجل الربح الأعظم، ألا وهو معرفة ربي يسوع المسيح. من أجله خسرتُ كل شيء، وعددت كل شيء نفاية لأربح المسيح، وأكون فيه، فلا يكون برّي من الشريعة، بل البر الذي هو من الايمان بيسوع المسيح. وإذا تمّ لي ذلك، عرفته وعرفت قوة قيامته وشاركته في آلامه فتمثلت به في موته" (فيلبي 3/8-10).

    "إني اسعى لعلي استولي كما استولى عليّ يسوع المسيح...إنما يهمني أمر واحد، وهو أن أنسى ما ورائي وأتمطى الى الأمام، فأسعى إلى الغاية، إلى الجائزة التي يدعونا الله إليها...في المسيح يسوع" (فيلبي 3/12-14).

    غالبا ما كشف لنا الرسول عن عظمة هذه الدعوة. فهو يقول: "لقد اختارنا الله قبل إنشاء العالم، لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة" (افس 1/4)، و"قدّرَ لنا ما قضاه بتدبير سابق، ذاك الذي يفعل كلّ شيء على ما ترضى مشيئته، فاصطفانا لنسبّح بمجده" (افس 1/11-12).

    ولكن كيف نجيب الى عظمة هذه الدعوة؟

    هوذا السرّ: "إن الحياة عندي هي المسيح" (فيلبي 1/21)، "فما أنا أحيا بعد ذلك، بل المسيح يحيا فيَّ" (غلاط 2/20). عليّ إذن أن أتحول إلى يسوع المسيح. وهذا ما أتعلمه أيضا من القديس بولس الذي يقول: "إن الذين اختارهم بسابق اختياره، أعدّهم قديماً ليكونوا على صورة ابنه" (روم 8/29)، فيترتب عليّ من ثمة ان أتأمل هذا النموذج الإلهي وأتمثل به إلى حد يمكّنني من تعبيره دوما أمام عيني الآب.

    واسمع هذا المثال الإلهي يقول لي حين دخوله إلى العالم: "هاءنذا آتٍ اللهمَّ لأعمل بمشيئتك" (عبر 10/19). ويبدو لي ان هذه الصلاة من شأنها أن تكون مثل نبضات قلب العروس: "ها نحن أيها الآب لنعمل بمشيئتك". ولقد صدق المعلّم في تقدمته الأولى هذه، فأتت حياته كلّها نتيجة لها: "إن طعامي هو أن أعمل بمشيئة الذي أرسلني" (يو 4/34). وهذا يجب أن يكون أيضا طعام العروس والسيف الذي يقربها كذبيحة.

    "إن أمكن الأمر، فلتبتعد عنيّ هذه الكأس ولكن لا كما أنا أشاء، بل كما أنت تشاء" (متى 36/39): هذا ما تردده النفس وهي خاضعة لإرادة الآب الذي عرفها فيصلبها مع ابنه الوحيد، وبقلب طافح فرحاً تذهب إلى كل تضحية مع معلّمها.

    "نلت آياتك ميراثاً خالدًاً، وإنها انشراح لصدري" (مز 118/111): هذا ما كانت تنشده نفس معلّمي، وهذا ما يجب أن يكون صداه مدوّياً في نفس العروس. فإنها بأمانتها الدائمة لهذه الوصايا الخارجية أو الداخلية يتسنى لها ان تؤدي الشهادة للحق، وأن تقول: إن الذي أرسلني هو معي، لم يتركني وحدي، لأني أعمل دائما ما يرضيه" (يو 8/29). فهي لا تتركه قط، وبوسعها بالإحتكاك الشديد معه أن تشعّ تلك القوة الخفية التي تخلّص النفوس. وهي إذ تكون متجردة ومتحررة من ذاتها ومن كلّ شيء، سيتاح لها ان تقتفي آثار المعلم على الجبل، لكي تقوم معه، في أعماق نفسها، "بصلاة الله" (لو 6/12).

    وهي دوما، مع الساجد الإلهي الذي أصبح التسبحة العظمى لمجد الآب، "تقرّب الى الله على يده ذبيحة الحمد في كل حين، أي بنات الشفاه المسبِّحة لإسمه" (عبر 13/15). وهي، كما ينشد المزمر: "تخبر بروائع آياته، وتتحدّث ببالغ عظمته" (مز 144/6).

    وحينما تحلّ ساعة الذل والهوان، ستتذكر تلك الكلمة الوجيزة: "أما يسوع فكان صامتا" (متى 26/63)، وتصمت هي أيضا: "محتفظة بقوتها للرب" (مز 58/10)، أي تلك القوة التي تستمدّها من الصمت. وعندما يحين أوان الخذلان والإهمال والقلق الذي دفع المسيح إلى إطلاق تلك الصرخة: "لماذا تركتني؟" (متى 27/46) ستتذكر هذه الصلاة: "ليكون فيهم فرحي التام" (يو 17/13)، فتجرع حتى الثمالة "الكأس التي أعدّها الآب" (يو 18/11) وتجد في مرارتها عذوبة إلهية. وبعد أن تكون النفس قد كرّرت غالباً هذه الكلمة "أنا عطشان" (يو 19/28) إلى امتلاكك في المجد، تلفظ أنفاسها وهي تردد: "قد تمّ" (يو 19/30)، "بين يديك أستودع روحي" (لو 23/46)، فيبادر الآب وينقلها إلى ميراث مجده حيث "بنوره تعاين النور" (مز 35/10). وكان داود ينشد في هذا الصدد قائلا: "اعلموا أن الرب يصنع الآيات لأصفيائه" (مز 4/4)... اجل، لقد تمجّد قدوس الله في هذه النفس، لأنه قد أفنى فيها كلّ شيء لكي يوشحها بذاته، فجاءت حياتها مطابقة لكلمة الساعي: "له ينبغي أن ينمو ولي أن انقص" (يو 3/30).



    اليوم الخامس عشر

    هناك بعد يسوع المسيح، وعلى البون بين اللامتناهي والمتناهي، خليقة أضحت تسبحة مجد عظيمة للثالوث الاقدس. فقد تجاوبت بكلّيتها مع الإختيار الإلهي الذي طالما تكلّم عنه الرسول. انها كانت دوما طاهرة ونقية حقا وبغير عيب امام الله القدوس.

    فإن نفسها من البساطة بحيث تستحيل مباغتة حركاتها. فكأني بها تمثّل على الارض حياة الكائن الإلهي البسيط. فهي من السطوع والشفافية بمكان حتى لتخالها النور. ومع ذلك فهي ليست سوى مرآة "شمس العدل".

    "كانت البتول تحفظ ذلك الكلام كله في قلبها" (لو 2/19، 51). فكأني بهذه الكلمات الوجيزة تعبّر عن تاريخ العذراء كله. انها عاشت في قلبها وفي عمقٍ لا يمكن النظر البشري أن يبلغ اليه.

    يا ما اجمل مريم وهي تسرع إلى جبال يهوذا لإداء واجب المحبة نحو نسيبتها اليصابات، وما أبهاها وهي تقطع تلك المسافة ملتحفة ببهاءٍ يعجز اللسان عن وصفه! إنها بكليتها اختلاء مع ابن الله الذي تحمله بين جنباتها. وصلاتها كانت على غرار صلاته: "ها أنا ذي. -من؟" امة الرب (لو 1/38) وآخر خلق الله، هي...أمّه!

    وما أصدق هذا التواضع! إنها كانت دوما تنسى ذاتها وتجهلها وتتحرر منها، ومن ثمة يحق لها ان تنشد: "إن القدير صنع اليّ اموراً عظيمة.. سوف تهنئني بعد اليوم جميع الأجيال" (لو 1/48-49).

    إنها سلطانة العذارى وسلطانة الشهداء، إذ سينفذ في قلبها سيفُ الوجع القاسي (لو 2/35): كل شيء عندها يحدث في الداخل!

    كم كان مرآها جميلاً عبر استشهادها المديد، وهي ملتحفة جلالا يلهم القوة والوداعة في آن واحد. فقد تعلمت من الكلمة كيف يجب أن يتألم أولئك الذين اختارهم الآب ضحايا، فعزم على اشراكهم في عمل الفداء العظيم، وسبق فعرفهم واختارهم ليكونوا بشبه مسيحه المصلوب حبّاً بنا.

    فها هي ذي منتصبة عند أقدام الصليب، وتدل وقفتها على بطولة لا تُضاهى. وإني لأسمع صوت معلمي المدنف وهو يقول: "هذه امّك" (يو 19/27). فما أسعدني أن تكون العذراء أمي! أما الآن وقد رجع الوحيد إلى أبيه، فعهد إليّ مهمة القيام عوضه على الصليب لكي أتم في ذاتي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة. وإني لأرى العذراء واقفة بجانبي لكي تعلّمني كيف اتألّم مثله، ولكي تبلغ إلى مسامعي آخر نغمات نفس الحبيب، تلك النغمات الشجية التي لم يسمعها أحد سواها، هي... أمّه!

    وحينما تأزف الساعة الاخيرة والفظ "قد تم"، تهرع هي، "باب السماء" اليّ، فتدخلني إلى المساكن الأبدية، هامسة إلي بهذه الكلمة السرية العذبة: "فرحتُ بالقائلين لي: إلى بيت الرب ننطلق" (مز 121/1).



    اليوم السادس عشر

    "كما يشتاقُ الأيل إلى مجاري المياه، كذلك تشتاق نفسي إليك يا الله. ظمئت نفسي إلى الله، إلى الاله الحيّ. متى آتي وأحضرُ أمام الله؟" (مز 41/2-3). ولكن مثلما "العصفور وجد له مأوى واليمامة عشا تضع فيه فراخها" (مز 83/4)، فقد وجدت "تسبحة المجد" أيضا مأواها وسعادتها وسماءها. وفي هذه السماء المسبقة بدأت حياتها الأبدية، ريثما يحين أوان انتقالها إلى أورشليم المقدسة حيث تنعم "بمعاينة السلام السعيدة".

    "إنما إلى الله تسكن نفسي، لأن من عنده خلاصي. إنما هو صخرتي وخلاصي، هو حصني فلن أكون متزعزعا" (مز 61/2-3).

    هذا هو السر الذي ترفعه اليوم قيثارة نفسي. وإذا بمعلمي يقول لي مثلما قال يوماً لزكا: "يا زكا، انزل على عجل". وإلى اين؟ إلى أعمق ذاتي، وبعد أن أكون قد تركت ذاتي وانفصلت وتخليت عنها، وبكلمة: بدون ذاتي.

    "يجب عليّ أن أقيم اليوم في بيتك": إنها الرغبة التي يعبّر عنها معلمي الذي يصبو إلى السكنى فيّ بصحبة الآب وروح المحبة، ليكون لي، حسب تعبير التلميذ الحبيب، "شركة" معهم (1 يو 1/3). ويقول القديس بولس: "فلستم بعد اليوم غرباء أو ضيوفا، بل انتم من أبناء وطن القديسين ومن أهل يت الله" (افس 2/19).

    ولئن أردت أن ًأصير بيت الله، عليّ أن أحيا، كما يقول القديس يوحنا الصليبي، في حضن الثالوث الهادىء، معتصمة بالإختلاء في أعمق كياني.

    "تشتاق نفسي وتذوب إلى ديار الرب" (مز 83/3). يخيّل إليَّ أن هذا يجب أن يكون موقف كل نفس تعود إلى ديارها الداخلية لتتأمل إلهها وتحتكّ به احتكاكا شديدا. إنها تقع فريسة العجز والإغماء الروحي إزاء محبة الله القديرة وجلاله اللامتناهي المستقر فيها. فليست الحياة الطبيعية هي التي تبرحها، إنما النفس هي التي تحتقر هذه الحياة الطبيعية وتتراجع عنها، حاسبة اياها غير لائقة بماهيتها الغنية. إنها تذهب لتموت وتنساب في إلهها.

    آه! ما أجمل هذه النفس المتحررة والمتجردة من ذاتها! إن لها وحدها يحقّ أن تنشد: "طوبى للذين بك عزتهم، ومن هامت بالصعود افئدتهم يجتازون بالوادي القاحل... إلى أن يتجلّى لهم إله الآلهة في صهيون" (مز 83/6-8). أما "الوادي القاحل" هذا، فهو كلّ ما ليس الله، لان الله وحده يمنح النفس موضعا للراحة فسيحا في ثالوثه غير المدرك. إذ إن "الآب غير متناه والإبن غير متناه والروح القدس غير متناه" (من قانون الايمان للقديس اثناسيوس،9).

    هكذا ترتفع النفس وتسمو فوق الطبيعة والحواس وتتجاوز ذاتها ايضا. إنها لا تتوقف عند الأفراح والعذابات، بل تجتاز خلال كلّ شيء ولا يقرّ لها قرار ما لم تلج داخل من تحبه، ذاك الذي يوليها راحة الغور الفسيح. وتأتي النفس هذه الأعمال كلّها دون أن تخرج من حصنها المقدس، إذ لا يغرب عن بالها ما قاله المعلم: "انزل على عجل".

    وهكذا، متحصنة في قلعة اختلائها المنيعة، ستعيش النفس على شبه الثالوث الهادىء في حاضر ابدي، وهي تسجد له دوماً وابداً لأجل ذاته، وترمقه بنظرتها البسيطة التي تنمّ عن كيانها الموحّد، فتصبح "ضياء مجده" (عبر 1/3)، أو بعبارة اخرى، إنها تضحي "تسبحة مجد" غير منقطعة تذيع كمالاته الإلهية.