الصلاة في حياة اليصابات وتعاليمها / الأب ريمون عبدو

  • حياتي صلاة
  • تحديد الصلاة
  • قوة الاستسلام
  • الصليب
  • على صورته
  • العبادة


  • حياتي صلاة

    كتبت إليصابات في مذكراتها سنة 1899 بعد أن شاركت في رياضة روحية في رعيتها بعض التأملات حول الصلاة كانت قد سجّلتها في مذكراتها؛ إنها تأملات تعكس حقيقة حياتها الروحية. هي تقول: "لا بد من الصلاة،... ينبغي أن نصلّي، لأنه من دون الصلاة تُغلَق السماء أمامنا؛ وبالصلاة تُغلق جهنم تحت خطواتنا؛ والصلاة الحقيقية، هي تنطلق من القلب وليس من الشفاه فقط. الصلاة دعامة تسندنا في أثناء العواصف الأرضية الكبيرة. والصلاة تأثيرها شديد على قلب الله. إنها المفتاح، ... علينا أن نصلّي، آه! أن نصلّي، حتى نُهدي النفوس المسكينة التي لاتعرف أن تصلّي أبداً! .... (وعلينا أن نصلي) بانتباه؛ وإذا كان الشرود غير إرادي، فصلاتنا ممتازة، مع أن قلبنا يشعر بتعزيات أقل. وأن نصلي بتواضع... وبثقة. إن صلواتنا مستجابة جميعها.... يا إلهي، نعم، أريد الصلاة حسب هذه المزايا الثلاث (بانتباه وتواضع وثقة)، أصلّي بثقة خاصة. آه، لن تثبط عزيمتي، سألحُّ عليك إلى أن تصغي إلي."

    منذ احتفالها بالمناولة الأولى سنة 1891، اكتشفت إليصابات معنى اسمها: "بيت الله". ساهم ذلك بترسيخ هوية وذهنية العيش الدائم بحضور ذاك المقيم دوماً أبداً فيها. هذا الحضور الدائم يخلق الخشوع والصمت. ويزيد هذا الحضور قوة، أنها تناولته، فأصبح غذاءها. وتتوالى الاكتشافات والاختبارات الروحية في حياة إليصابات، فقد نذرت ذاتها للمسيح منذ الرابعة عشرة من عمرها، وراحت تسعى للعيش في خضم ثالوثها الذي اكتشفته مسكناً لها كما اكتشفت ذاتها مسكناً له. وبانتظار الدخول الى الكرمل، خلقت صومعتها الداخلية، وتركته من هناك يدير حياتها نحو الكمال. " يبدو لي أن لا شيء يلهي عنه عندما لا نعمل إلاَّ من أجله، دائماً في حضوره المقدّس، تحت نظرتِه الإلهية التي تخترق أقصى حميميّة النفس؛ حتى في وسط العالم، يمكن أن نُصغيَ إليه في سكون قلبٍ لا يريد أن يكون إلاَّ لَه" (رسالة 38).

    بعد دخولها الكرمل، جسّد اسمُها رسالتَها: "اسمي في الكرمل: "مريم أليصابات للثالوث"، هذا الإسم يشير إلى دعوة خاصة" (رسالة 62). فالعيش بالحضور يتحول الى دعوة الى الصمت والعزلة في جو من العبادة. "لم أفهم من قبل أبداً كما فهمت الآن هذا السرَّ الموجود في اسمي، وكل هذه الدعوة التي ينطوي عليها". "فليكن "مركزنا"، ليكن "مسكننا".".(الرسالة 113).

    تستشهد إليصابات كثيراً بالأم القديسة تريزا الأفيلية، والقديس يوحنا الصليب، وتريز الطفل يسوع، معلّمي الكرمل. "فقديستنا الأم تريزا تريد أن تكون جميع بناتها رسوليات: هذا بسيط جداً، فالمعبود الإلهي هو فينا، إذاً لنا صلاته، لنقدمها، لنشارك فيها، لنصلي مع نفسه!" (رسالة 258)... فمعلّمي الكرمل اختبروا العلاقة مع الله وعلّموها؛ "كم أحب طريقة القديسة تريزا في معالجتها لهذا الموضوع، عندما تتحدث عن التأمل.... لا أستطيع التعبير عن النفع الذي أحصل عليه من كتاب القديسة تريزا هذا، وهو يتوجه مع ذلك إلى بناتها في الكرمل بصورة خاصة" (يوميات 24 شباط 1899). "هل تعرفين القديس يوحنا الصليب؟ إنه أبونا، وكان قد ذهب بعيداً جداً في أعماق الألوهية!" (رسالة 136)،... و"حول تحوّل النفس في "الأقانيم الثلاثة الإلهية" (رسالة 185). " لقد كتبَ ....صفحات رائعة تتعلقُ بهذا الموضوع، في "نشيده" و "شعلة الحبّ الحية"؛ هذا الكتاب العزيز حقَّقَ الفرح لنفسي التي وجدت فيه غذاءها الجوهري كلياً" (299). فمطالعاتها لقديسي الكرمل ساعدتها على التعبير عن اختبارها الروحي الصوفي، ووصفِهِ بدقّقة، لا بل على تطويره بشكلٍ أفضل.



    تحديد الصلاة

    كيف تحدد إليصابات الصلاة من خلال كلامها وعيشها وخبرتها؟ "عندما أقول الصلاة، فهذا لا يعني أن نلتزم كل يوم بتلاوة الكثير جداً من الصلوات اللفظية، بل أن نرفع النفس نحو الله عبرَ جميع الأشياء التي تُثبتنا مع الثالوث الأقدس في نوع من المشاركة المستمرة، وبكل بساطة نفعل كل شيء تحت نظره. ... هناك حيث يقيمُ الآب، والابن والروح القدس وفيهم سنكون وحدة كلية" (رسالة 252). وفي مسألة التأمل يُشغلها جوهر اللقاء بالمسيح؛ "خُذي مصلوبك، أُنظري وأصغي... في إمكاننا الصلاة إلى الله ونحن نعمل، ويكفي أن نفكِّر فيه. عندئذٍ يصبح كل شيء عذباً وسهلاً، لأننا لا نفعل ذلك وحدنا وأن يسوع هو هنا" (رسالة 93). والى والدتها تقول "عيشي معه في نفسك حقاً، قومي بأفعال تأملٍ في حضوره؛ قدِّمي له الآلام التي تُعانين منها بسبب صحتك: هذا أفضل شيء يُمكنُ أن نعطيه له" (الرسالة 295). كما سوف نرى، يتناغم تحديد اختبار الصلاة في حياة اليصابات، مع اكتشافها لحقيقة الله في حياتها. فالله هو الثالوث، عائلة الحب...

    تتفاعل إليصابات عن وعي مع هذه القوة المحوِّلة، وهذا الحضور الالهي القوي في حياتها وتسعى لتوجيه النفوس نحو فهم حضور الله، وكيفية التجاوب معه، لتصبح الصلاة لقاءاً محولاً ومثمراً. تجيب على الكثير من الأسئلة الصعبة حول موضوع الصلاة ببساطة الخبير، لأنها تعرف معرفة أكيدة من خلال اختبارها. "في أوقات الضعف، إذهبي والتجأي في كنف صلاة معلِّمك؛ فعلى صليبه كان يراك، وكان يصلِّي لأجلك، وهذه الصلاة حية للأبد وحاضرةٌ أمام أبيه؛ إنها هي القادرة على تخليصك من شقائك. فبقدر ما تشعرين بضعفك، تكبر ثقتك، لأنك عليه وحده تستندين. لا تعتقدي إذاً بأنه لن يأخذك بسبب ذلك؛ إنها تجربةٌ ضخمة" (رسالة 324). إنّ ما تقوله هنا الى صديقتها جرمين تستخلصه من اختبارها وصلاتها الخاصة. تلك الصلاة التي عاشتها ممزوجة بالألم، كانت ملاقاة المصلوب، بل جوابها على نداءاته وسعي الى تحقيق "الوجهاً لوجه". فإليصابات تنظر من بعيد ومن قريب الى الشخص الآتي نحوها، يسوع، ولا تَدَع الأحداث أو الأفكار والمشاعر تثنيها عن الانتباه؛ هذا هو الحضور، الحضور فيه ومن أجله ومعه، في قلب الثالوث.

    أيها الثالوث الذي أعبد

    يكمن لاهوت الصلاة في ممارسة وعيش الصلاة، أو بالأحرى تحويل الصلاة الى حياة والحياة الى صلاة؛ وإليصابات صلّت قبل أن تتكلّم عن الصلاة. أصبحت صلاتها "أيها الثالوث الذي أعبد" متصلةً بإسمها، صلَّتها قبل أن تموت بسنتين تقريباً، وعاشتها طيلة حياتها ومماتها. لكي نفهم هذه الصلاة علينا أن نقرأها على ضوء ماضي إليصابات، لأنها مترسّخة في مراحل وتفاصيل حياتها، وتدل على اختبار تأملي عميق وراسخ. كتبتها في 21 تشرين الثاني، عيد تقدمة العذراء في الهيكل، يوم تجدِّد الراهبة الكرملية أمام القربان، نذورَها الرهبانية. فالمناسبة دسمة ومهمّة لكي تقفِز إليصابات في حضنِ "ثالوثِها" الحبيب نهائياً، وهي تعبّر عن هذه الحالة في هذه التقدمة. كتبت صلاتها في حضرة الثالوث وأمامه، وله فقط. لم يقرأها أحد قبل مماتها. انها حقاً تعبيرٌ عفويّ عن حبٍّ عارم ورغبةٍ في عطاء الذات الكامل لله. لقد قرأت طبعاً بعض التأملات للقديسين، أو أصغت الى عظات وشروحات لاهوتية حول الثالوث الأقدس؛ لكنها تشعر "بثالوثها"، قريبٌ جداً، محبّ حنون؛ وكلماتها التي تنبع من القلب، كأنها مطبوعة فيه منذ زمن، تدل على عفوية في علاقتها مع الآب والابن والروح.

    ترتكز الصلاة على قاعدة الايمان الذي يعطي الانسان صورةً عن حقيقة الاله الذي يؤمِن به، ومن خلال هذه الصورة يصلّي الانسان أمام الله. من هنا الحقيقة الأولى التي تظهر أمامنا في اختبار إليصابات للثالوث الكرملية: هي تؤمن بالله الثالوث. الله الآب يرتبط بالإبن برباط روح الحب؛ وهذه العائلة السماوية تريد أن يشترك الانسان في تيار الحب هذا.

    "يا إلهي الثالوث الذي أعبد، ساعدني على نسيان ذاتي كليًّا لكي أثبتَ فيك، ساكنةً مطمئنة، كما لو كانت نفسي منذ الآن في الأبديّة". ترغب إليصابات في أن تقدّم ذاتها كاملة الى الله، دون أن يكون هناك ما يمكنه أن يعكّر "سلامي، ولا أن يُخرجني منك". يصبح الزمن مقياساً للذهاب أبعد في غور سرّ الله. "ضع نفسي في سلام، واجعلها سماءَك، ومسكنَك المحبوب، ومقرَّ راحتِك". انها عبارات سخيّة وقوية تتخطّى في رغباتها الممكن؛ فهي تريد أن تحوي الله الثالوث "الثابت"، تريد أن "تُريحَه"، وتجعلَه يرغبُ في السكنِ فيها. "لا تدعني أتركك فيها وحدك أبداً، بل فَلأكُنْ حاضرةً هناك بكلّيتي،كاملة التيقّظ في إيماني، كاملة السجود، مستسلمةً كلّ الاستسلام إلى عملك الخالق." تعرف إليصابات مقتضيات هذه الحالة، لذلك طلبت أن تنسى ذاتها نسياناً كاملاً، وأن تكون "حاضرة" و مستسلمةً. هذا الحضور والاستسلام ونسيان الذات، يحوي كامل طاقات إليصابات البشرية في هذه الصلاة، لا بل في كامل حياتها. هذه هي خلاصة الحالة الصوفية، أي أن يكون الله الفاعل، والانسان هو الخليقة التي تكتمل بين يدي صانعها دون أية مقاومة. ومسيرة الصلاة الحقيقية هي ذاك العبور من رغبة الانسان الذاتية في تحديد دينامية اللقاء مع الله، الى حالة الارتماء والاستسلام ونسيان الذات. وفي هذا التحوّل تكمن حقيقة الاختبار الروحي من خلال الصلاة.

    الكرملية حضور

    واقع الصلاة أو موقف الصلاة الحقيقي هو الحضور الكامل من خلال كامل الحواس النفسية والروحية، في الله ومع الله الذي اتّخذ من الذات مسكِناً له وهيكلاًً. هذا الحضور هو الحياة بحد ذاتها، وهو يتخطى أوقات الصلاة، بل يمتد من الصمت في الكرمل لكي يصل الى أبسط النشاطات الحياتية التي تقو بها الكرملية. تروي إليصابات في إحدى رسائلها الى اختها، كيف أنها فشلت إحدى المرّات، في مساعدة أخواتها الراهبات في غسل الثياب، "...لكن لم يكن لذلك من أهمية لأنني كنت مفتونة بعملي! آه، كل شيء ممتع في الكرمل كما ترَين، ونحن نلتقي بالله في غرفة الغسيل كما في الصلاة، فليس من سِواه أينما كان، هو الذي نحياه ونتنفسه. لو كنت تعلمين كم أنا سعيدة وكم يكبر أفقي كل يوم" (رسالة 89). أمام حقيقة حضور الثالوث الساطع في حياتها، عليها أن تجيب، أن تكون هناك حاضرة، في شركة مستمرة، في "قلب لقلب" وبكلّيتها. "فَلأكُنْ حاضرةً هناك بكلّيتي،كاملة التيقّظ في إيماني، كاملة السجود، مستسلمةً كلّ الاستسلام إلى عملك الخالق". "يجب أن تبني، مثلي أنا، صومعة صغيرة في داخل نفسك؛ ستتصورين أن الله هناك، وستدخلينها بين الحين والآخر؛ عندما تشعرين بالتوتر والتعاسة، أهربي بسرعة إلى هناك، بوحي إلى المعلم بكل ذلك. آه، لو كنت تعرفينه قليلاً، فلن تضايقك الصلاة بعدها؛ يبدو لي أن الصلاة هي راحةٌ وارتياح: نأتي إلى الذي نحبه بكل بساطة، نمكث بالقرب منه كطفل صغير بين ذراعَي أمِّه، ونترك قلبَه على سجيّتِه. كنت تحبين للغاية أن تجلسي قريبة جداً مني، وتبوحي إليَّ بأسرارك. إنه بهذا الشكل يجب الذهاب إليه، ولو كنت تعلمين كم يفهم جيداً... فقد لا تعودين تتألمين على الإطلاق إذا ما فهمت هذا. هذا هو سرّ الحياة في الكرمل: حياة الكرملية هي شركة مع الله، من الصباح حتى المساء، ومن المساء حتى الصباح. لو لم يكن يملأ صوامعنا وأديرتنا، آه! كم كان الفراغ سيعم. لكن نحن نراه عبر كل شيء، لأننا نحمله فينا، وحياتنا هي سماء مسبقة." (رسالة 123). نرى بوضوح أن الصلاة تملأ الزمان (من الصباح حتى المساء) والمكان (الصوامع، الأديرة...) في حياة اليصابات، من خلال توجيه القلب والعقل نحو نشاط هو ميزة الطفل الذي يفكّر عفوياً بوالديه أمام كل حالة مهما كان نوعها.

    "الصلاة هي الأهم عندنا، ويجب القول إنها شغلنا الوحيد، لأن على الكرملية ألاَّ تتوقف عن الصلاة." (رسالة 142). "إن أيام الكرملية مليئة تماماً دقيقة فدقيقة، بالصلاة والعمل" (رسالة 181). "هنا، الصلاة يعني أن نتنفس" (رسالة 206). "أمضي فترة الصمت الكبير في احتضار حقيقي حيث أتَّحد باحتضار المُعلِّم الإلهي، ماكثةً إلى جانبه قرب مُصبعة الخورس. ... لنصلِّي بمثابرة، فالصلاة هي ما تمس قلب المُعلِّم" (235).





    قوة الاستسلام

    يعلّم اللاهوت الروحي التقليدي أن التطهّر من جميع الميول الداخلية هو ضروري للوصول الى حالة الاستنارة ومن ثمّ الاتحاد الكامل بالله والاستسلام له؛ ان الخطيئة والنّزوات البشرية تمنع الانسان من الوصول الى السلام. تتأمل إليصابات في رياضتها الأخيرة حول "النفس التي تجادل أناها وتنشغل بأحاسيسها، وتتّبع تفكيراً لا يُجدي وتستسلم لشهوةٍ ما، هذه النفس تُبدّد قواها وهي لا تزال غير مؤتمِرة بالله كلّياً: لا تَهتزّ كنّارتُها للنَغَم، ولا يستطيع "المُعلِّم"، عندما يلمسُها، أن يُخرِج منها نغماتٍ إلهية. لا يزال هناك كثيرٌ من البشريّة فيها، وهي نشاز. إنَّ النفس التي تحفظ بعض الأشياء في "مملكتها الداخلية"، التي لا تزال جميع قواها غير "مسوَّرة" في الله، لا تستطيع أن تكون مُسبِّحَة كاملة بمجده؛ أنها ليست في حالة أن تُنشِد دون انقطاع هذا "النشيد الكبير" الذي يتكلّم عنه القديس بولس؛ لأن الوحدة لا تزال غير سائدة فيها، وهي بدل من أن تتابع تسبيحه ببساطة عبر الأشياء جميعها، عليها أن تجمع أوتار كنارتها من دون توقف، هذه التي ضاعت قليلاً، في جميع الجهات" (الرياضة الأخيرة، 3). عندما تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من دينامية الحياة، لأن الله هو الجزء الأساس والأهم في الحياة، تتفاعل كامل طاقات النفس مع النعمة لكي توجِد الانسان في حال من النمو نحو هويته الحقيقية، أي أن يكون "مسبِّحاً بمجد الله". إن مسيرة الصلاة تتطلّب من النفس أن تتجرد من كل ما يمنعها من تحقيق اللقاء مع الحبيب، في الداخل والخارج. ومن خلال النص الذي قرأناه نجد أن الصلاة ليست، بالنسبة لإليصابات، نشاطٌ مباشر وليد اللحظة والمناسبة، بل هي، في كل لحظة تعبيرٌ عن وحدةٍ داخلية وتناغم بين قوى النفس ورغبة العريس.

    حيّ الرب الذي أنا واقف أمامه: روح الكرمل، الحياة التأملية

    تكتب الى راهب كرملي: "يجب على نفسينا اللتين أذابهما المُعلِّم فيه، أن تتحولا إلى هذا "التسبيح بمجده" الذي يتكلَّمُ القديس بولس عنه. "إني غرتُ غَيْرةً للرب إله القوات"، كان هذا القولُ شعارَ جميع قديسينا؛ لقد جعل من أُمنا القديسة "ذبيحةَ محبةٍ".... أن نحيا في حضور الله فهذا ...ميراث أورثَه القديس إيليا إلى أبناء الكرمل، هو الذي كان يصرخُ بإيمان شديد: "حي هو الرب الذي أنا واقفٌ أمامه". إذا أردتَ، فإن نفسينا بعبورهما المسافة، تلتقيان لِتُرددا معاً شعارَ أبينا العظيم هذا؛ سنطلبُ إليه، في يوم عيده، أن يهبَنا موهبةَ التأمل التي هي جوهرُ الحياة في الكرمل، حياةُ قلبٍ لقلب لا تتوقَفُ مُطلقاً، لأنه عندما نُحب لا نعودُ لأنفسنا أبداً، بل للكائن المحبوب، ونحيا فيه أكثر مما نحيا فينا بالذات. وأسأل "ملكة الكرمل" أن تهبَكَ روح رهبانيتنا المُضاعَفة: روح التأمل وروح التفكّر؛ لأنه من أجل أن تحيا بملامسةٍ مستمرة مع الله، لا بد من أن تكونَ مُضحياً بكلِّيتك ومُقدماً ذاتك ذبيحة كلية. .... فنحن إذا حافظنا عليه، يُحافظُ علينا ويجعلُ منا قديسين، نفوساً قادرةً على أن تخدمَ الله وكنيسته. (الرسالة 299).

    تأكدت إليصابات أنها من أبناء القديسين. فالمعلِّمُ "يحثّني" على الانفصال عن كل ما ليس "هو". الابتعاد عن العالم، الدخول في الصمت، انه مبدأ أساسي لكي نتمكن من الاصغاء الى كلمة الانجيل، الذي هو الرب "يتكلم في داخلنا". ان عبارات مثل الاصغاء، الحضور، الحب، وغيرها في حياة القديسين تكسب معاني شبيهة جداً بالمعنى الموجود في الكتاب المقدس؛ وبالتالي فهي تشمل كامل طاقات الانسان الروحية والكيانية، ولا تقتصر على بعض المشاعر البشرية الفكرية أو العاطفية. الصمت يعني الحضور، والإصغاء يعني الاستسلام والقبول. والجواب على هذا الاصغاء يكون في أن نُظهِرَ له حبَّنا في التضحية "لأن التضحية على ما يبدو لي ليست إلا الحب الفاعل".

    لقد قرأت إليصابات كتابات القديس يوحنا الصليب، وهي تتكلم عن حقيقة واختبار في مدرسة الكرمل الصوفية؛ فالسلبية في معناها الصوفي هي حالة ضرورية لا تدل على موقف سلبي من الناحية البشرية. فالسكون والسلام الداخليان هما انفصال عن الذت والعالم لتصبح النفس مسكناً للعريس، دون أية مقاومة: "دائماً الشرط نفسه، العزلة نفسها، الانفصال نفسه، والانسلاخ نفسه! إذا لم تكن رغباتي ومخاوفي وأفراحي وآلامي، ولم تكن جميع الحركات الناتجة عن هذه "الانفعالات الأربعة" منتظمة في الله تماماً، فلن أكون مُتَوحِّدة، وستكون هناك ضجة فيَّ؛ يجب السكون إذاً، و"رقاد القوى"، وتوحُّد الكائن" (الرياضة الأخيرة 26).

    جذرية، شمولية، استمرارية

    ان صلاة إليصابات تتّسم بالجذرية في رغباتها؛ إن فعل الحب الذي تقوم به تجاه الثالوث يتّصف بالشمولية، والاستمرارية والكثافة؛ إنها تريد أن تعطي "كلّ" شيءٍ، "بكلّيتي كاملةً"، وأن "أثبت" فيك دوماً... إن حقيقة الصلاة هي أن نترك الله يعمل ويحقق في حياتنا جميع رغباته هو؛ ولكي يتمكن الله من تحقيق "عمله الخالِق" والمجدِّد، علينا أن نعرف كيف نَمّحي ونستسلم وننسى ذاتَنا. في الكثير من الأحيان تتحوّل رغباتُنا الخاصة في الصلاة الى عائق أمام العمل الالهي. إليصابات لا تطلب سوى أن تتعلّم، في مدرسة مريم أم يسوع، كيف تتمّم مبدأ "ها أنذا أمة الله، فليكن لي بحسب قولك"، دون أية شروط.

    إن الصلاة لا تقتصر على رغبة بشرية في التوجه نحو الله، وإليصابات تعلم ذلك تماماً وتريد أن تقوله في كل نص من كتاباتها. الصلاة تبدأ في الدعوة التي تأتي من الآب، وتكتمل عندما نجيب نحن، تحت فعل الروح. "يوضح القديس بولس لي هذا الكلام ويشرحه عندما يقول: "اختارنا قبل إنشاء العالم لنكونَ عنده قديسين بلا عيبٍ في المحبة"... يعني في الله، "الله محبة" (رسالة 244). والذين يرغبون بالسيطرة على الاختبار الروحي في الصلاة لا يعترفون بالصلاة كعطية إلهية؛ إنها هبة مجانيّة نطلُبها يوميّاً ونشكُرُ عليها دوماً. فتتحول الحياة إلى فعل إيمان، وفعل جواب على النداء، وفعل شكر على العطية.

    فقد فهمت إليصابات كيف أن الله يدعو الانسان الى الوجود (يخلقه)، ومن ثمّ كيف يدعوه الى الشركة معه من خلال ابنه يسوع المسيح (يعيد الخلق بعد الخطيئة)، فالمسيح الانسان هو الطريق الذي يقود الى الآب، فيه تتحقق الرغبات الأصيلة للبشرية، وبالاتحاد به يمكن تحقيق الدعوة الأساسية التي هي القداسة. لذلك تنتقل إليصابات فوراً الى مسيحها المحبوب، "المصلوب حبًّا"، وتعبّر عن رغبتها في أن تكون "عروسةً" لقلبه،... أريد أن أحبّك ... وحتّى الموت حبًّا". تريد أن تكون "حاضرة" دوماً له، وأن تهبه حياتها؛ وهذا ليس مبادرةً منها، بل هو جوابٌ على ما قام به من أجلنا. ليس المهم أن تحصل إليصابات على التعزيات، بل هي تبحث عن يسوع فقط، وهذه الميزة ترافقها في كامل مسيرتها الروحية. فالمسيح يسوع (الله- الانسان كما نتعرّف اليه في الانجيل) هو مركز صلاتنا، إذا شئنا أن نتعلّم في مدرسة إليصابات للثالوث، حياة التأمل والمشاهدة.

    "ولكنيّ أشعر بعجزي"

    بعد أن وصفت إليصابات رغبة قلبها، تجد ذاتها أمام عجزها ومحدوديتها، وهذا اعترافٌ بالحقيقة ضروريٌ كهمزة وصل بين الانسان (وامكانياتِه) والله (وعِظَم رحمتِه). اننا غالباً ما نتألم أمام عجزنا، ونبدأ بخوض المعارك مع ذواتنا، وأحياناً مع الله؛ وأساس هذه المعركة هي رغبتنا في أن نرضي الله رغماً عن ضعفنا، وغالباً ما يفاجئنا الفشل. "فالمطلوب هنا واحد"، أي أن نقف أمام الله، نعترف بهذا الضعف ونطلب، كما طلبت تريزا الطفل يسوع في صلاتها المشهورة "تقدمة الذات"، وبكلمات إليصابات: "أريد أن أُتمَّ مشيئتك كاملةً، أن أستجيبَ لِنعمتِك دائماً؛ أريد أن أكون قديسة معك ولأجلك، لكني أشعرُ بعجزي، آه، كن قداستي" (مذكراتها الشخصية، 5)؛" إنه فينا، ياسيّدتي العزيزة، كي يقدِّسنا، لنطلب إذاً ان يكونَ بذاته قداستنا" (رسالة 184). أمّا إذا تلهّينا في معاركنا وتخبّطنا، دون أن ننظر مثل إليصابات، الى الأمام، فنخسر المعركة؛ لأننا بذلك نكون قد علّقنا الأمل على جهدنا الذاتي، وليس على رحمته وحضوره. وهذه الدينامية لا تقلِّل من جهدنا، بل تحدّ من ثقتنا المفرطة في ذاتنا، ولا تزيد من قداستنا، بل توسّع المكان الذي يحتله الله في حياتنا لكي تكون قداستنا على مقياس رغباته هو وليس على حسب مخططاتنا.

    حياتي إشعاعٌ لِحبِّكَ

    ان نقطة الانطلاق في حياة الصلاة حسب إليصابات، تلميذة تريزا الأفيلية، هي في الواقعية ومعرفة الذات. من هنا اكتشاف الضعف البشري وجمعه بمشاعر الابن الذي يوجّه كامل كيانه وحواسه الداخلية نحو من هو وحده قادرٌ على تنظيم قواه. والموقف الذي تستنتجه إليصابات هو اليقظة المستمرة: "هو فيَّ، أنا فيه، وليس لي إلاَّ أن أحبه وأدع نفسي تُحب طوال الوقت، وعبرَ الأشياء كلّها: أستيقظ في الحب، أتحرك في الحب، أنام في الحب، النفس في نفسه، القلب في قلبه، العين في عينه، كي يطهّرَني بملامسته ويخلّصَني من عجزي." (الرسالة 177). "أنا في جوع شديد له، إنه يُعمّقُ أغواراً في نفسي، وهي أغوار يستطيع هو وحده أن يملأها. ولأجل هذا يقودني في صمت عميق لا أحب أن أخرج منه" (رسالة 190). "لقد طلبت إليه أن يقيم في نفسي كعابد، كمُصلح وكمُخلِّص، ولا يمكنني القول لك أي سلام يمنحه هذا لنفسي بالتفكير في أنه يعوّض عن عجزي، وأنني إذ أسقط في كل لحظة تمضي، فهو هناك كي يُنهضَني ويحملَني بعيداً أكثر فيه، إلى عمق ذاك الجوهر الإلهي الذي نسكنه الآن بالنعمة، وحيث أريد أن أغوص إلى هذه الدرجة من الأعماق التي لا يقدر شيء أن يخرجني منها" (رسالة 214). فعلى قدر معرفتها لِذاتها، تفهم إليصابات كيف أنه هو وحده قادرٌ على تقديسها، وتستنتج المواقف العملية التي هي حياتها.

    لقد اكتشفت القديسة تريزا، في كتاب المنازل، أن التواضع ومعرفة الذات هما قاعدة أساسية لعيش التأمل المسيحي. في هذا السياق تأتي قراءة إليصابات لأحداث حياتها وآلامها، لكي تترجم هذا الاكتشاف الحقيقي. يتحوّل الواقع الحياتي انعكاساً حقيقياً لمجد الله، بالرغم من المحدودية والضعف والألم، وحتى بالرغم من الخطيئة. فكما أن بولس الرسول قد اكتشف أنه "حيث كثرت الخطيئة فاضت النعمة"، كذلك إليصابات ترى في ضعفها، ومن خلاله، حضور الله ومجدَه. "يحكي عجزي واشمئزازي، وتحكي ظُلماتي وأخطائي بالذات، مجدَ الأبدي. تحكي آلامي النفسية والجسدية أيضاً، مجدَ مُعلِّمي." (الرياضة الأخيرة، 17). وتقول لاحقاً (رياضة اخيرة، 31) "ها هو عمل المسيح إزاء كل نفس حسنة الإرادة، وهذا هو علمُ حُبِّه الفائق، "حُبّه الشديد"، يستعجله ليعمل فيَّ. يريد أن يكون سلامي بحيث لا يستطيع شيء أن يلهيني ويخرجني من "قلعة الاختلاء المُقدَّس المنيعة". هناك سيعطيني "سبيلاً إلى الآب"، ويحفظني ثابتة وهادئة في حضوره، كما لو أنّ نفسي كانت في الأبدية. إنّه بدم صليبه سيُسَكِّن كل شيء في سمائي الصغيرة، كي تكون فعلاً راحة "الثلاثة". سيملأني به، ويدفنني فيه، ويُقيمني معه بحياته. "الحياة عندي هي المسيح". وإذا كنتُ أسقط في كل لحظة، ففي الإيمان، واثقة كلياً، سيُنهضني، وأعرف إنه سيصفح عنّي، وسيمحو كل شيء بعناية خاصة. وأكثر من ذلك، إنه "سَيَسلَخُني" و "يُنقذني" من شقائي، ويزيل كل عقبة تعترض العمل الإلهي، "ويُسيِّر كل قواي"، يجعلها أسيرته، ظافراً عليها في نفسه. عندئذٍ سأكون قد انتقلت كلياً فيه، وأستطيع القول: "فما أنا أحيا بعد ذلك بل مُعلِّمي يحيا فيَّ". وسأصبح "قديسة، طاهرة، بلا عيب" في عيني الآب."

    فعندما تقول إليصابات "أطلب منك "أن تكسوَني من ذاتك"(غلاطية 3،27)، وأن تُماثِل نفسي جميعَ حركاتِ نفسك، وأن تُغرقني وتجتاحني وأن تقوم مقامي، كي لا تعودَ حياتي سوى إشعاعٍ لحياتك"، فهي تعرف أن هذا واقع وحقيقة، بل هو فعل إيمان وثقة واستسلام أمام فعل الحضور الإلهي. كما أنه فعل اعتراف بحقيقتها المحدودة؛ أضيف أيضاً أنها تعرف حقيقة الألم الذي يتضمنه عمل الله الذي "يسلخ" وينقذ من الشقاء، ويأسر، ويظفر... "إنني أشعر به يتلفني هكذا .. وهو صعب الاحتمال بالنسبة إلى الطبيعة البشرية.... "أفتح عين نفسي تحت نور الإيمان" بسرعة كبيرة، وهذا الإيمان يقول لي إنه الحب الذي يتلفني ويذيبني، وفرحي هائل وأستسلم إليه كفريسة." (عظمة دعوتنا). إن حبَّ المسيح يعطي كل ما عنده، وكل كيانه؛ وينتزع منّا كل ما لنا، وكل كياننا. إنه "يطلب أكثر مما لنا القدرة على عطائه بنفسنا. لديه جوع هائل يريد التهامنا قطعاً. يخترق حتى أعماقنا. وبقدر ما نسمح له بهذا بحب، بقدر ذلك ننعم بتذوقه". يعرف أننا فقراء، لكنه لا يعير أهمية لهذا ولا يسامحنا بشيء. و"هو نفسه" يصنع خبزه فينا. يمحو في حبِّه ، أولاً، عيوباً وأخطاء وخطايا. ثم، حين يرانا طاهرين، يأتي فاغراً كالنسر الذي يريد التهام كل شيء. يريد أن يتلف حياتنا ليحوِّلها فيه. حياتنا مليئة بالعيوب وحياته مليئة بالنعم والمجد وكل شيء مُعدٌّ لنا، لو أننا نستسلم فقط." (السماء في الايمان،18)

    ان المشاهد الكتابية والصور التي تستعملها إليصابات تذهب بنا بعيداً الى حدث الطوفان حيث تجتاح المياه كل شيء من أجل تجديده. تقول للأب شيفينيار " ليغمرك نهر ماء الحياة الكبير ويجتاحك، ولتشعر من عمق أعماق نفسك بعيون ماء الحياة تتفجّر (رسالة 185). فالنفس التي لا تكتشف حقيقة الله الذي يقيم فيها، لا تجد النبع المتدفق أبداً. "وهي لا ترتوي بماء الحياة، كما كان يختبر القديسون بملامستهم المحبة اللامتناهية: الحياة في الروح القدس، في الأعمق منهم. هذه الحياة الالهية لاتعرف سعة ولا مسافة. الله يسكن في أعماق النفس، وهذا النور يشع في عمقها ويسمح لها بملامسة الجوهر الإلهي حيث تجد غبطتها الأبدية... إنه الله في العمق منّا يستقبل الله القادم إلينا. فالله يريد "أن يزور باستمرار هذه الوحدة الرائعة، من صنع يديه، ويبلورها دائماً بملامسة "كلمته" الفائقة وبواسطة تدفق محبته. إن مشيئة المسيح هي أنه بين أفعالنا الأكثر عملية والأكثر تعدداً، علينا القيام بزيارة دائمة لصورتنا الإلهية" (مذكراتها 17 تموز 1906).

    يقول القديس بولس: "أهَّلَنا للشركة في إرث القديسين في النور"، لكننا سنمجد بمقدار ما نتماثل مع صورة ابنه الإلهي. لنتأمل إذاً هذه الصورة المعبودة، ولنمكث تحت إشعاعها من دون توقف حتى تنطبع فينا (السماء في الايمان، 27). ففي هذه الحال ليس المسيح هو من يحل محل إليصابات، عندما يجتاحها ويكسوها من ذاته، بل تكون إليصابات قد استعادت صورتها الحقيقية، هويتها التي حصلت عليها في المعمودية. "أيّها الكلمةُ الأزليُّ، كلمةَ إلهي! أريد أن أمضيَ حياتي مصغيةً إليك. أريد أن أجعل نفسي شديدة القبول للتعلّم، كي أتعلّم منك كلَّ شيء". فالكلمة تفقد قيمتها ومعانيها إذا افتقدت من يصغي اليها؛ وإليصابات تريد أن يتحوّل كيانها الى مثل كيان مريم المصغية بإيمان وحب واستعداد لتسخير كل شيء من أجل تقوية هذه طاقة الاصغاء والقبول لديها، فتصبح "الكلمة" كلمة الآب، قادرة على القيام بعملها. فيسوع الانسان يعطي لإليصابات صورتها الحقيقية ويساعدها على تحقيق دعوتها الانسانية كما هو يريدها، "كعابدٍ، كمعوّضٍ، وكمخلّصٍ". وهذا الوعي العميق لدى إليصابات يدفعها لأن تحوّل حياتها الى فعل عبادة حقيقية (راجع روما 12،1-2) في جوّ من الانبهار والصمت المنفعل؛ فكل عتمة إيمان، وفراغ، وكلّ عجزٍ، يصبح وسيلةً لكي تحدّق فيه دوماً. وهي بكامل طاقاتها وقواها تريد أن يبهرها "كي لا أستطيع الخروج من إشعاعك أبدًا." فصورة المياه والخلق التي تأملناها في بداية صلاتها، تتحوّل الى "النار الآكلة"، أي أننا نرى إليصابات تتحرك بكل راحة وسلام داخل الثالوث، وتتمتّع بمعرفة عفوية لحيثية فعل الأشخاص الثلاثة في الانسان وتطلب من الآب والابن والروح ما يتوافق مع الحقيقة اللاهوتية لكل شخص إلهي. فالانسان يُحسِن الطلب عندما يطلب فقط ما يطلبه الله. وعندما يدخل الانسان في حياة الثالوث ويفهم نوعية العلاقة بين الأشخاص الثلاثة، عندها يبدأ بتجريد ذاته من كل ما يمنعه من جعل ذاته تتناغم مع رغبات الله، لأن رغبات الله هي حب: فالعبادة والتعويض هي أفعال حب. العبادة هي فعل حب الانسان تجاه الله، والتعويض هو فعل حب الله-الانسان (يسوع الابن) تجاه الله (الآب) لخير الانسان، وهذا يتضمن سر الفصح والألم. أما الخلاص، فهو فعل حب الهي، لأن الله وحده قادر أن يخلّص الانسان. وعندما إليصابات تصبح يسوع، ويسوع يصبح إليصابات، فيمكنها أن تشاركه هذه الأفعال الثلاثة.

    بشرية مزادة

    ان معرفة إليصابات بخبرة مريم التي أصبحت مستقرّ الروح القدس ومسكنه، والخيمة التي تجسّد فيها الابن يسوع المسيح، تدفعها لأن تطلب من "روحَ الحبّ (أن) "يحلّ فيها"، (لوقا1،35) فيَتمَّ في نفسي ما يشبه تجسّدَ الكلمة: فاجعلني له بشريّةً مزادة يجدّدُ فيها سرّه كاملاً". فاذا كانت غير قادرة على أن تحلّ محل المسيح الانسان، تطلب أن تكون "بشريّةً مُزادَة". هي قادرة أن تجعل انسانية المسيح ظاهرة في حياتها اليويمية، في مشاعرها وتعابيرها، كما أنها تستحيل مسيحاً آخر؛ لكنها تعلم أن الروح وحده قادرٌ أن يحقق هذه الأمنية. العروس تعرف جيداً أن المهم ليست مشاعرها ورغباتها، بل رغبات العريس، أي ماذا يريد يسوع أن يحقق في كنيسته بواسطة هذه الانسانية المزادة، لذلك تستعد لأن تستسلم لجميع رغباته.

    هذا الاستعداد يظهر على الأقل في وجهين من خبرة إليصابات: الأول خبرة الألم الجسدي والنفسي والروحي الذي حملته دون أن تفقد السلام والقوة؛ "أعاني في جسدي ما نَقَص من آلام المسيح". أنت أيضاً، أنتِ مَنْ له إنسانية فائضة بشكل ما، سمحت له فيها بأن يتألَّم كامتدادٍ لآلامه(....) لكن كم من النفوس يُمكن تخليصها هكذا... أنت تمارسين رسالة الألم"(الرسالة 259). "ما أعظم رسالة الكرملية؛ يجب عليها أن تكون وسيطة مع يسوع المسيح، أن تكون له إنسانية زائدة فيها يستطيع متابعة حياته في التكفير والتضحية والتسبيح والعبادة. آه! أسأله أن أكون في مستوى دعوتي وأن لا أفرطَ بالنعم التي يوفرها لي؛ لو تعلم كم يُخيفني ذلك... عندئذٍ ألقي بنفسي في ..."الأمين، الصادق" وأتوسل إليه أن يكون هو بذاته أمانتي."(رسالة 256). وتقول لاحقاً بشكل أوضح " هو يريدُ أن أكونَ إنسانيةً فائضةً فيها يستطيعُ أن يتألَّمَ أيضًا لأجل أبيه وليردّ على حاجات كنيسته؛ تُريحني هذه الفكرة كثيراً..."(رسالة 309) " يستطيع أن يجدد فيها كل سرِّه" (مذكراتها، 15). تصبح الكرملية الامتداد الحقيقي لرسالة المسيح الخلاصية في الكنيسة والعالم. ويصبح الألم حباً العلامة الأكيدة لذلك. كل ألم أو علم أو حركة لا يصبّ في مصلحة الكنيسة عروس المسيح، يكون فارغاً من أي معنى أو قيمة. من هنا يجب أن ننطلق لكي نفهم معنى الألم في حياة الكرملية، انه اتحاد مع صليب المسيح من أجل خلاص البشرية. "ها هي حياة الكرملية: إنها متأملة قبل كل شيء ومجدلية أخرى، لا يستطيع شيء أن يلهيها عن الحاجة إلى أمر واحد (لوقا 10/24)؛ وهي تحب المُعلِّم كثيراً لدرجة أنها تصبح ذبيحة مثله، وان تصيرَ حياتها كهبة ذاتية متتابعة، وتبادل حب مع الذي يملكها حتى إرادة تحويلها إلى مثيل آخر له."(الرسالة 164). "هذا الصليب، هو ميراث الكرمل: "أن أتألّم أو أن أموت!"، هكذا كانت تصرخ القديسة الأم تريزا؛ وحين ظهر ربنا على أبينا يوحنا الصليب، سأله عما يرغب فيه كمكافأة عن جميع الآلام التي عاناها في سبيله، فأجابه: "يارب، أريد أن أتألّم وأن أكون محتقراً لأجلك" (رسالة 207) "أتألَّم حُباً بمعلمي وأيضاً لأجل من أحبهم." (رسالة 272).

    من جهة ثانية من الضروري جداً أن نعي أن هذه الآلام لا ترتكز على القدرة أو الرغبة البشرية بذلك؛ انها فقط مشيئة الحب التي ينبوعها يسوع المسيح وقدرة الصليب الخلاصية. الكرملية هي امتداد للمصلوب، وليس العكس صحيحاً. فالنار الآكلة، نار الروح القدس، تستهلك وتحول الى ذاتها كل ما تلمسه: واختصاص الكرملية هو أن تستسلم لهذه النار الآكلة دوماً، فتصبح صلاتها وعملها وكامل حياتها مسرحاً للتبدّلِ الداخلي الذي يعمله الروح.

    الألم فعل حب واتحاد مع المصلوب

    في رسالة الى والدتها تؤكد إليصابات أن لها (كالملاك) جناحان لكي تظلّل مَن تحبّهم: "الصلاة، والألم" (الرسالة 295). فالصلاة وحدها يمكنها أن تتحول الى نشاط فكري أو تقوي منفصل عن الحياة. ان اتحاد أليصابات مع الله هو اتحاد عميق وواعي، إراديّ ومنفتح. تمكنت من أن تقرأ سيرة صلاتها وأحداث نفسها في مسيرة الحب مع الرب، من خلال شروحات تريزا الأفيلية التي أعطتها عن نِعمَ الصلاة العقلية والسكون والوحدة. كذلك من خلال قراءة يوحنا الصليب...."منذ نهاية آذار/مارس وأنا في جناح المرضى، طريحة الفراش، ولا وظيفة لي إلا أن أحب. "سأنتقل إلى المنازل اللامتناهية لأتأمل دون حجاب هذا الثالوث الذي كان مقامي على الأرض". "عيشي معه في الداخل دائماً؛ هذا يفترض إماتةً كبيرةً، لأنه من أجل الاتحاد به هكذا باستمرار، يجب معرفة إعطائه كل شيء.... (والانقطاع عن) كل ما هو ليس الله ...والالتصاق به باستمرار، عبر الإيمان... كي تُثبتي ليسوع كم تُحبينه، إعرفي كيف تنسين نفسك دائماً كي تحققي السعادة لأخصائك الأعزاء وكوني أمينةً على كل واجباتك وكل قراراتك. عيشي بالإرادة أكثر من أن تعيشي بالخيال. إذا شعرتِ بضعفك، يا صغيرتي العزيزة جيرمين، فالله يريد أن تستخدميها للقيام بأفعال إرادة وتقدمينها له كأفعال حبّ تصعد إلى قلبه حتى تهزيه بعذوبة. ... أن النفس بحاجةٍ إلى أن تذهب وتستمد القوة في الصلاة، خاصة في الصلاة العقلية، في حميمية قلب لقلب حيث تسيل النفس كلها في الله، في حين أن الله يُسيل فيها حتى يُحولها إليه بالذات؛ هذا هو شغلي الوحيد في صومعتي الصغيرة، التي هي جنة حقيقية". (الرسالة 278). "أعتقد بأن السعداء في ه�

    الصليب

    يحتل الصليب مكاناً مميزاً في شخصية إليصابات ونمط حياتها. وهي تعبّر عفوياً عن حبها له يومياً وخلال العمل؛ وكانت تدعه يرافقها دوماً و تضعه أمامها؛ انه كتابها المفتوح دوماً لتقرأ فيه قصة الحب العظيم. "خُذي مصلوبك، أُنظري وأصغي" (رسالة 93)، "فالكرملية... هي نفس نظرت إلى المصلوب ورأته يبذل ذاته ذبيحة لأبيه من أجل النفوس. وبالاختلاء تحت رؤيا محبة المسيح الكبرى هذه ، فَهِمَتْ شغف نفسه بالحب وأرادت أن تعطي نفسها مثله!" (رسالة 133). إليصابات ترى أن الراهبة الكرملية هي "نفسٌ مبذولة،\ ذبيحة لمجد الله.\ مع مسيحها هي مصلوبة\ لكن جلجلتها، آه كم هي منوّرة!\ بنظرها إلى الذبيحة الإلهية\ انبثقَ نور في نفسها،\ وبفهمها رسالتها الفائقة، \صرخ قلبها المجروح: "هاءَنذا!" (القصيدة 83). إن حب إليصابات هذا ينبع من رغبتها العميقة في أن تتماثل نفسها بنفس يسوع، أي أن تحب مثله، وأن تتألم مثله، وأن تخلّص الآخرين مثله. فإذا طلبت منه في صلاتها أن يأتي اليها "كعابد، ومعوّض ومخلّص"، ذاك لأنها هي تريد ذلك فقط طبقاً لرغبة المماثلة والحب. هذا الحب يذهب الى أبعد، فانها تريد أن تغمُرَه بالمجد كأنها تريد أن تعوّض عليه آلامه، كأنها أمه.

    بالنسبة لإليصابات إنَّ عقيدة إماتة الذات، هي عقيدة كل نفس مسيحية منذ أن قال المسيح: "من أراد أن يتبعني فليزهد في نفسه ويحمل صليبه ويتبعني" (متى16/24)، هذه العقيدة تبدو متقشفة جداً، لكنها ذات نكهة لذيذة عندما ننظر إلى مدى معنى الموت الذي هو حياة الله الموضوعة مكان حياتنا، حياة الخطيئة والشقاء. فترغب في أن تكون "وحيدة معه وحده، حاملة صليبي مع مُعلِّمي. إن سعادتي تكبر بدرجة وجعي". فالنفس التي تريد أن تخدم الله في هيكله ليلاً ونهاراً، أعني في المعبد الداخلي، يجب أن تكون عازمة فعلاً على المشاركة في آلام مُعلِّمها. أنها مفتداة عليها أن تفتدي نفوساً أخرى بدورها. لأجل هذا ستُنشد على كنارتها "أفتخر بصليب يسوع المسيح"، أنا مصلوبة مع يسوع المسيح على الصليب" . وأيضاً: "أعاني في جسدي ما نقص من شدائد المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة". "إنّه بدم صليبه سيُسَكِّن كل شيء في سمائي الصغيرة، كي تكون حقيقة راحة "الثلاثة". سيملأني به، ويدفنني فيه، ويُقيمني معه بحياته. "الحياة عندي هي المسيح". "أسأله أن يهبَك هذا الحبّ للصليب الذي يصنع القديسين". والى امها تقول: "تلقِّي في النور الذي ينبثقُ من الصليب ، كل محنةٍ، كل إزعاج، كل معاملة غير لائقة إلى حد ما؛ إنه بهذا الشكل نُرضي الله، ونتقدمُ في طُرق الحب". واذا رغبت إليصابات بالصليب، أو تمنّت حمله للذين تحبهم، ذلك لأنها تعرف حقيقة مضمون الصليب ومعناه ونهايته، وذلك من خلال اختبارها. "يا يسوع، تعال مع صليبك، أنا أطلبه منذ مدة طويلة. حين أتألم، أعتقد بأنك تحُبني أكثر، ثم أشعر أيضاً بأنك بالقرب منّي أكثر."

    هذه هي دعوة "تسبحة المجد" (أسم إليصابات)، "هي نفس ساكنة تريد أن تكون كنّارة تحت لمسة الروح القدس السرِّية حتى تخرج منها نغمات إلهية؛ تعرف أن الألم هو وتر يُصدر أصواتاً أكثر جمالاً، وتحب أيضاً أن تراه في آلتها الموسيقية كي تحرّك قلب الله بعذوبة أكبر".(السماء في الايمان، 44).



    على صورته

    متى تحققت "الانسانية المزادة" في إليصابات، تتحقق الصورة والشَّبَه، فتهتِف: "وأنت أيّها الآبُ، إنحَنِ على خليقتِك الصغيرة المسكينة، وظلّلها بظلِّك، ولا ترَينَّ فيها إلاّ "الحبيب الذي وضعتَ فيه كلَّ مسرّاتِك". فهي تشرح سر التبني الالهي في رسالة الى أختها. ان الله في السماء، ونحن كلنا مدعوون، كما يقول بولس الرسول لأن نكون من القديسين الذين منزلتهم في السماء، لكن الحقيقة الأهم هي أن "هذه السماء، منـزل أبينا هذا، هي في "مركز نفسنا"! (...و)حين نكون في مركزنا الأكثر عمقاً فنحن في الله. عبرَ كل شيء ... يمكنك أن تأوي إلى تلك العزلة كي تستسلمي إلى الروح القدس كي يُحوِّلك في الله ويطبع في نفسك صورة الجمال الإلهي، حتى أن الآب وهو يميل عليك لا يرى شيئاً غير مسيحه، ويستطيع القول: "هذه هي ابنتي الحبيبة التي عنها رضيت" (الرسالة 239).

    فالعمل الالهي الخالق والمحوّل ينتظر دوماً من الخليقة مساهمتها والتزامها من خلال الانعكاف نحو الداخل، نحو مركز النفس حيث يتم التحوّل بحلول الروح القدس. الروح يعمل، فيكوّن فينا الابن يسوع، حتى يرضى الآب: هذا الحضور المستمر داخل الثالوث، هو خبرة حقيقية عاشتها إليصابات وفهمتها وعبّرت عنها. ويمكننا أن نقول أن هذا الاختبار الثالوثي هو نقطة الارتكاز الحقيقية الوحيدة في الصلاة والعبادة المسيحية.



    العبادة

    هي المرادف لعبارة "تسبحة مجد" التي هي خلاصة دعوة إليصابات واسمها الذي اكتشفته في الكرمل. "أن نكون متأصلين بالمحبة ومؤسسين عليها، هذا هو الشرط على ما يبدو لي، لتأدية فرض التسبيح بمجده، باستحقاق. إنَّ "النفس التي تخترق أعماق الله"، وتثبت فيها، والتي تعمل كل شيء "فيه، معه، بواسطته ومن أجله"... كلُّ ما فيها يُسبِّح الله القدوس ثلاث مرات: هي معبد دائم، وتسبيح بالمجد لا يتوقف. يجب على النفس، أولاً، أن "تسجد"، ... عندئذ يُمكنها أن "تعبد". العبادة، آه! هي كلمة من السماء. ويبدو لي إنه في الإمكان تحديدها بـ: نشوة الحب. إنه "الحب الذائب" في الجمال والقوة وعظمة الذات المحبوبة الهائلة..." (الرياضة الأخيرة ،20-21).

    من الصعب وصف حقيقة العبادة بكلمات ذات طابع فكري، فتذهب إليصابات الى شخصية تميزت بالعبادة، لكي نقتفي آثارها: "أتتصوّرين ما حلَّ في نفس العذراء بعد التجسُّد عندما كانت تملك في نفسها، الكلمة المتجسّد، عطية الله… بأي صمت وبأي خشوع وبأي عبادة كان يجب أن تستغرق في التفكير، في عمق نفسها، كي تبلغَ هذا الله الذي كانت هي أمه. إنه فينا، يا صغيرتي غيت. آه! لنمكث بالقرب منه تماماً، في هذا الصمت، مع حب العذراء هذا" (رسالة 183). يا أم الكلمة، آه قولي لي ما هو سرّك.\ منذ لحظة التجسد،\ قولي لي كيف مررت على الأرض\ مُتكفنةً في العبادة.\ في سلام كلي لا يوصف،\ في صمت سري\ وَلَجتِ الكيان الذي لا يُسبر" (القصيدة 88). وتقول لأحد الكهنة بمناسبة سيامته، أن "العبادة هي ذلك التسبيح الذي يجب أن يُرتّل في نفسك بعد السر الكبير الذي تم فيها للتو. لأن خاتم الله ختمها هذه الأيام بختمه الإلهي، فأصبحت حقاً "مسيح الرب" (رسالة 202) فكل حدث إلهي في حياة الانسان يقترن بالجواب المناسب، أي العبادة. العبادة هي حقاً أن "نتطلّع إلى الحب، ونجذبه على أنفسنا وعلى الكنيسة" وهذا التطلّع هو حبٌ مقابل حب "ونسيان ذات، لنحيا في السلام... (رسالة 214)

    بعد رياضتها الروحية تعبّر عن غبطتها باكتشاف دعوتها الكرملية التي "تجعلني أندفع في العبادة، وفي صلاة الشكر" (رسالة 219). "رسالة الكرملية (هي) أن تكون وسيطة مع يسوع المسيح، أن تكون له إنسانية زائدة فيها يستطيع متابعة حياته في التكفير والتضحية والتسبيح والعبادة" (رسالة 256). "أيها المعلم المعبود، تبحث عن ذبيحة\ وتريدُ في محبتك \ ديمومة حياتك للأبد،\ مُتجسداً وسط الإنسانية،\ لأنك تحلم أن تصعدَ إلى الآب\ التضحية والعبادة" (القصيدة 91). فالعبادة الحقيقية هي ذاك الشعور الذي يصعد من قلب المسيح المتجسد نحو الآب، وبما أن الكرملية هي امتداد، هي انسانية مُزادة للمسيح، فهي تقوم بوظيفة يسوع الكاهن، العابد الحقيقي للآب. فتكمل هاتفةً "أيها العمق! السر الذي لا يُسبر،\ قلبي أصبحَ سرك المتواضع.\ تعال فيه لتمجّد الآب\ في الصمت والخشوع." تصف إليصابات المسيح في موقف الصلاة بكلمة "عابد" أو "العابد الكبير"، ونحن عندما نقوم بالعبادة، نكون قد حققنا صلاته فينا.

    لذلك في خاتمة صلاتها تقفز إليصابات القفزة الأخيرة مستسلمة في حضن الثالوث "يا ثلاثتي،يا كلّي، يا نعيمي، يا وحدتي اللامتناهية، أيّها المدى العظيم الذي أضيعُ فيه، إنّني أستسلّم إليك كفريسة. إندفنْ فيّ لكي أندفنَ فيك، بانتظار ذهابي لأشاهدَ على ضوء نورك غور عظائمكَ"