القديسة تريزا ليسوع

  • حياة القديسة تريزا ليسوع 1515-1582
  • أهم الأحداث في حياتها/إعداد الأب البير أبونا


  • حياة القديسة تريزا ليسوع 1515-1582

    في الجهة الغربية من مدينة آفيلا Avila وفي مجموعة بيوت يَنمُّ ظاهرها عن اليُسرِ اكثرَ منه عن الفخفخة : قبالةَ كنيسة القديس: Domingo de Bilos. ابصرت النور في 28 آذار سنة 1515، الساعة الخامسة صباحاً – طفلةٌ خلاّبة المنظر، التي مع توالي السنين، قُدِّرَ لها ان تحتلَّ مكانةَ اشهرِ النساء في تاريخ النصرانية.

    "تريز دي الحمادى" Teresa de Ahumada هو اسمُها، ابنة الرَّزِين، والمَهيب دُون أَلونسو ثيبيدا: Alonso de Cepeda وزوجته الثانية، الحلوة والخَيِّرة: دونيا بياتريث دابلا والحمادى: Dona Beatriz d’Avila y Ahumada… .

    وبحسب الاخبار المنقولة، والموثوق بها، قد اغتسلت تريزة بمياه المعمودية، في ال4 من نيسان، في كنيسة سان خوان S. Juan الرعائية. ولا يزال، حتى اليومَ منظوراً ومحفوظاً، الحوضُ الذي فيه وُلدَتِ الطفلةُ الى حياة النعمة. وقد تبناها، في قبول السر العَرابان: D.Francisco Vola Nuñez شقيق Don Blasco حاكِم بلاد البيرو Perú، والذي الى جانبه، قاتلَ قتالَ الابطال، شقيقا القديسة في المعركة الشهيرة، معركةInaquito (1546)، في الاكوادورEquador: والسيدة Maria del Aquila ابنة دون Francisco Pajaros صديقٍ حميم لوالد القديسة، ومُنفذ، بعدئذ ، وصية السيدة Beatriz والدتها.

    لا يُعرف شيء عن الطفلة في سِنيِّ رضاعتها. يُعتقد انها عبرتها عبوراً طبيعياً، سالمةً اقله، من الأمراض الثقيلة. وبما ان والداها كانا مسيحيَيْنِ حقيقيين، ما إن تفتح كِمُّ عقلِها الى نور الحقيقة، حتى أخذا يلقناها المبادىء الدينية، باثَيْنِ في قلبها الطريء بذورَ التعبد البنوي للقديسة البتول مريم، وللقديس يوسف خِطّيبِها: القديس الذي سوف تصبح، في المستقبل، الرسولَ الغيور على رفع رايةِ التكريم له، عالياً، في آفاق الكنيسة.

    والحدثُ الذي – في طفولتها – يُميط اللثامَ افضلَ من اي سواه، عما سيكون طابِع وشخصية القديسة العتيدة، والأكثرُ اشتهارا لدى كافة معارِفها: هو هربُها مع شقيقها رودريكو : Rodrigo الى ارض المور: مصمّمةً على استعطاء القوتِ، من بابٍ وباب، طيلة الطريق، حتى ينتهيا الى حيثُ يُقطع رأساهما استشهاداً في سبيل الله. كان للطفلة سبعُ سنوات من العمر، لما أقدمت على هذه الخُطة التي انتهت، قبل أن تتحقَّق بقليل، بالتقاء البطلَيْنِ الصغيرين بعَمهما دون : Francisco de Cepeda في البراري، خارجَ المدينة، وهما سايَرْينِ في الطريق الذي يُؤدي الى سلمنكا Selamanca. في الموضع المعروف اليوم: ب: العواميد الأربعة Los Cuatro Postes. وعَمْدُ القديسة هذا الى الاستشهاد انما كان نتيجة ما كان يتأجج به صدرُها من النيران المقدسة، التي أضرمت سعيرها سِير القديسين الشُهداء التي كانت تنصَت الى والدتها تُخبرُها اياها، او تقرأها هي نفسُها مع شقيقها، في كتاب "زهرُ القديسين" flos Sanctorum” “الذي في مكتبة الوالد.

    ولما رأت تريزة ان خطتها قد أُفسِدت، وانها لن تستطيع ان تستشهد حبا لله، قبَعت في البيت – وربما شُددت الحراسةُ عليها – مما اضطرها الى تقضية مُعظم أوقاتها مع شقيقها.

    فكانت واياه، تارةً تبني الصوامِعَ والاديرة، في انحاء بستان الدار، بالحجارة الملتقطة منه، لكنها ما كانت تَلبَثُ ان تسقط على الارض. وفي تسليتها هذه مع شقيقتها، كان فكرها يغوص في تأملات عميقة؛ كانت قرأتْ واياه ان الثوابَ والعقابَ يدومان الى الأبد. وكان يلَذُّ لها ان تُراجع مع شقيقها كلمة : "الى الأبد، الى الأبد" Siempre! Siempre! وتارةً أخرى: كانت تختلي منفردة، لتلاوة صلواتها الكثيرةَ، والطويلةَ، وأخصها المسبحة، التي كانت والدتُها مثابرةً عليها، وحريصةً على ان يحذو أولادها حذوَها بتلاوتها. وعندما كان يُتاح لها ان تلاعب بناتِ سنها، كان همُّها الهامّ ان تصنع منهن راهبات، وتبني واياهن الأديرة.

    وتريزة اخذت، مع ترعرها في السن، تتفتح الى الحياة. فكلّفَت بقراءة الكتب الفروسية التي كانت تُطالعها والدتُها بصورة مستمرة، في اوقات التسلية، شأنَ السيدات الرافهات في تلك الأيام. ولم تكن دونيا بياتريث لتحظَرَ مِثلَ هذه القراءات على ابنتها، اعتقاداً منها ان لا ضرر فيها، وان مطالعتها تحول دونَ تورطِ الأولاد في اخطار عديدة. بالأحرى كانت هي التي تُسهّلها وتُحبّذها. اما دون ألونسو، فكان على عكس زوجته؛ لمْ يالَفْ سوى قراءة الكتب التنسكية والتقشفية، كما ولم يَرقْهُ اصلا تداول ابنته كتبَ الفروسية. ولا بد من ان يكون فرض سلطته وفاتش زوجته في الامر، مصرّحا بعدم موافقته اياها في السماح لتريزة بتلك المطالعات. فعلى الرغم من هذا، ومن الاحترام الذي كانت تكنُّه تريزة لوالدها، كان للفتاة فنُّها الخاص لنهم الكتب سرا، من غير أن يدري والدها بالأمر. وتطرَّق بها هذا السُعار، الى درجة انها كانت تتَنَغَّص وتغتمّ أو تحصلَ دائماً على كتاب جديد.

    هذه المطالعات، ما طال ان اثمرت؟ فينقل الأب Ribera كانت حياة القديسة، انها لكثرة ما نهمت من كتب، أَلَّفت بمساعدة شقيقها (1) كتابا، ليس من غير قيمة، ذا صبغة فروسية، لو استندنا في نقده على اوضاع الفتاتََيْنِ، وميولهما يومئذٍ، لوجب أن يخرجَ قصةً طريفة ومسلية.

    كانت تريزة تناهز الثالثةَ عشرة، لما توفَّى الله والدتَها الحنونة، عن عمر 35 سنة في Gotiarrendura، مزرعةٍ تبعد عن آبلا ثلاث غلوات (نحو كيلومتر)، لجهة الشمال حيث كانت تستقدمهم مصالحُهم الزراعية. فُقدان الوالدة كان صدمةً عنيفة لتريزة، في اشد عَوَزِها الى حنان الأم. ودليلُه، الحدث التالي، المقتبس من الفصل الأول من كتاب حياتها: "عندما أخذتُ أقدِّر الخسارةَ التي حلَّت بي، قصدتُ – وقلبي يُدميه الاسى – الى صورة البتول مريم، وتوسلت اليها بدموع غزيرة، ان تكون، هي، امي بعدَ الآن. وأعتقدُ ان صلاتي هذه، بالرغم من صدورها العَفْوي من القلب، لقد حَظيتُ بالقَبول. لأني، والحق يقال، ألْفَيْتُ في هذه البتول القديسة، خيرَ معينٍ في كل امر الجأتهُ اليها. وفي النهاية قد اتخذتني كلني لها.

    في هذا الوقت تراوحت، بين تريزة وأولادِ عمها، دون Francisco. De Cepeda معاشرةٌ وثيقةُ الرَّبُط، وأخذ وردّ متواصلَين. سبب ذلك – بالاضافة الى القرابة – كون عمها كان يسكن منزلاً ملاصقاً لمنزل شقيقه: والدة تريزة، ولا فاصلَ بينهما الا باب. ودون ألونسو، ليس بالرجل المتغافل عن مقامته، وعن مسؤولياتِه كوالدٍ؛ ولا المتساهلِ بما يصون نقاوةَ جو بيته وهو جذعٌ من الأرومات النبيلة في آبلا حتى يرضى لأي كان بدخول بيته ومجالسة اولاده سيما تريزا. كما ولم يتخالجه شبحُ الرَيْبِ من ملازمة اولاد شقيقه لبيته، ومخالطتِهم اولاده. وبالحقيقة، لم يكُن هنالك من داعٍ الى القلق؛ لأنهم جميعَهم، كانوا على جانب كبير من التهذيب، ومتمرسين في خوف الله. هم أولادُ أخيه. ودارُه تكاد تكون دارَهم. وبعَرْفِ القُربى، كانوا أهلاً أكثرَ منهم أقرباء.

    على أن السِّن المراهقة، وتتاخُمّ المنزلين، وجاذبياتِ تريزة – وما أكثر ما حباها الله منها– وسرعةَ خاطرها، الى جانبِ ذكائِها الحاد: مما جعلها قُبلةَ ابصار الشبابِ الشريف في عاصمة الفروسة، كلَّ هذه العوامل، كانت السببَ الرئيسي لمجالساتٍ طويلة، ومحادثات مستمرة مع اولاد عمها، سيما الأكبرِ سناً منهم، الذي – من دون شعور تريزة – قد رَسَمَ في تفكيره خطةً، على الفتاة الجذابة. الا ان ضميراًُ حسّاساً، ولطيفاً كضميرها، لم يستطع ان يتهرب، في الغد، من وَخَزات تلك المجالسات البريئة بحد ذاتها. انها لم تنطوِ على اي اهانة لله. بل كانت مجردَ تقضية أوقاتٍ، بمحادثات شريفة عنيفة. واما الذي زاد في الطين بلّة، فهو ان فتاة طائشةً، ودُنْيَويَةُ، من قريبات تريزة، كانت تعاوِدُها بزياراتها، ناقلةً اليها، بِعَفِنِ الحديث، وخِليعِ اللباس، وخفيفِ المسلِكْ، سم اباطيل العالم. ولم تنجح توبيخات الوالد، ولا تأنيبات الشقيقة الكبرى. ولم يكن ايضا بالوسع الحؤول دون التقاء تريزة بقريبتها: فانتقلت العَدْوَى، وإذا بتريزة اليومَ، هي غيرها مع رودريكو في هربها الى ارض المور. هي غيرُها، في البستان الوالدي، تاليةٌ الصلوات الطويلة، او منقطعة الى التأملات العميقة، او مأخوذة بأبدية المصير، ومُرددةً مع شقيقها كلمة: الى الأبد... الى الأبد! لقد انمحى من بالها بناءُ الاديرة والصوامع، واقامةُ الراهبات. لأن تهالكها على الكتب الفروسية، والمجالساتِ الطويلة والباطلة، ومعاشرةَ الفتاة الطائشة افترّوا دفءَ الفضيلة في قلبها وأَنموا فيه الرغبة في الظهور، وإعجابِ الناس بها، والتأنق في اللباس، وتجعيد الشعر، وتمليق كلَّ ما يُغري فتاةً جميلة، في تكل السِنُّ النَزِفَة والعديمةِ التبصُّر والروية.

    هذا التغيير في اخلاق تريزة لم يكن ليخفي عن عينَي دون ألونسو، كما ولا عن ابنته الكبرى: دونا ماريا، ذات الوداعة والفضيلةِ المتينة. ولذا، قبل أن تغادر هذه المنزل الوالدي، لتتزوج بدون مرتين: D.Martin Casman Barrientos… باحثَت أباها بشأن تريزة، وقرارا ارسالَها الى دير الراهبات الأغسطينيات، حيث يتهذب، كتلميذات داخليات بنات الطبقة الشريفة الآبلية، في جوٍّ نقي، بعيداً عن اخطار السِنّ الطائشة والمعشَرِ المحموم.

    كانت تريزة ابنةَ 16 سنة، يوم ولَجَتْ اعتاب الراهبات الأغسطينيات. والايام الثمانية الأول، كانت أصعبَ ايام وجودها في المعهد. وما ان مرت هذه المحنة، حتى ألِفت تريزة الجو، وعادَ السرورُ الى نفسها، كما وعَظُمَ إعجابُ الراهبات بها.

    كانت تنام وايانا- تقول تريزة – في حُجرة النوم، نحن التلميذات، راهبة فاضلة اتخذها الله اداة لإعادة نور الحقيقة اليّ. ولما أخذ يَروقُني حديثَها التقي، والقديس – وهي كانت على جانب كبير من الحكمة والقداسة – كنتُ أُسَرُّ بالسماع اليها. ما ألذَّ ما كان حديثُها عن الله الامر الذي، على ما اعتقد، ما فتئتُ يوماً واحداً عن السرور بالنصْتِ اليه. فشَرَعَتْ تقُص عليَّ كيف انها ترهبت، لمجرد قراءتها نصِّ الانجيل: "إنّ المدعوين كثيرون والمختارين قليلون" (متى: 20-16). وكانت توضح لي الثوابَ الذي يُعدُّه الله لمن يتركون كل شيء حبا له. وبهذه العِشرة الصالحة لها، أخذتْ تنطَمِشُ في نفسي العوائدُ التي رسمتها العِشرة الرديئة، وعادت تَنبُتُ في فكري الأشواقُ الى الأمورِ الأبدية؛ وتلاشَي قسمٌ كبير من شديد كراهيتي لاعتناق السِلك الرهباني: كراهبةٍ كانت تُبهظ كاهلي بِثِقْلِ وطأتها. وإذا حدثَ لي ان أفاجىءَ راهبة تَذرِفُ الدموعَ وهي تصلي، او تتمرَّسُ بإحدى الفضائل، فكنت أحسِدُها كل الحَسَد. لأني، كان لي – حينئذ – قلبٌ أقسى من الجلمود، حتى اني، لو قرأت آلامَ الرب بكاملها، لما اعتصرتُ منه دمعة واحدة. وهذا اكثرٌ ما كان يَكبِتُني." (كتاب السيرة، فصل 20).

    قضت تريزة في معهد الأغسطينيات سنةً ونصفَ، وتحسنت معنوياتها تحسنا ملموسا. فكانت تصلي بدون انقطاع، وتطلب الى كل مَن حولَها ان يتشفعوا فيها لدى الله، علّه يُنيرها الى الطريق الذي يُريد ان تخدمَه فيه. "لكن ليس باعتناق السلك الرهباني، ولا ان يرتضيَ تعالى بأن يدعوَني إليه، مع كوني، بالوقت نفسِه، كنت أخشى الزواجَ ايضا. (ف 3).

    في آخر مرحلة تهذيبها هناك، كانت تميل الى الترهب اكثرَ منها الى غيره. لكي ليس في دير الأغسطينيات: بسبب بعضِ الممارسات المتطرّفة في القساوة، والتي كانت تعتبرها متجاوزة الحد. ومما كان يَزيدها رسوخاً في اعتقادها هذا، هو موقِفُ بعض الراهبات الشابات ، اللواتي لو كُنَّ جميعُهن على نظرية واحدة، "لعاد الأمر على نفسي بفائدة أعمّ"

    تريزة تناهِزُ اليوم ال18 من العمر. وإذا بمرَضٍ يضطرها الى مغادرة المعهَد الى المنزل الوالدي، حيث أغدقَ عليها دون ألونسو، من الاعتناء احنَّه، فعادت اليها عافيتُها. ولاكتمال فترة النُقوهَة، كما ولمشاهدة شقيقتها الكبرى: دونا ماريا، التي لم ترَها منذ زواجها من دون مرتين، قصدت الى Castellanos de la Canada قريةٍ صغيرة في اقليم آبلا المتاخم لاقليم سَلَمنكا، تحوي بضعَ بيوتٍٍ وبئراً، لتقضية ردحة من الوقت الى جانب امها الثانية الساكنة هنالك منذ وداعها البيت الوالدي.

    لا يُعرف الزمانُ الذي صرمته هناك تريزة. الارجحُ أنه كان بضعةَ أشهر، لأن المسافة الى هناك طويلة، واشقاء تريزة كانوا يَكُنون لها محبةً جمّة ليدَعوها ترجع الى آبلا قبلَ هذا الميعاد.

    تريزة تُطلُّ الآن على الربيع الثاني من عُمرها. هي اليومَ في غَلْواءِ الشباب. هي لفي أدقّ وأصعب مراحل حياتها: مرحلة تقرير المصير. نهجُها اليومَ، بعد خروجها من دار التهذيب، هو غيرُ نهجها في سن طفولتها، او في عِشرة اولاد عمها في آبلا. هي اليومَ رزينة. مفكرة. متبصرة. قدُّها الممشوق - وهي ابنة العشرين- يلتحِفُ برونقٍ جيد، من مِشيتها المتئدّة، الرصينة، واحتشامها في اللباس، وِين حديثها المهذب. جمالُ خَلقِها – وهي الكَلِفة اليومَ بسماع كلام الله، والتحدث عنه، والعملِ بوحي الفضيلة – تضاعف بمزيجِ سموِّ اخلاقها – وهي خرّيجة الأغسطينيات - بكرامة محتدها، ونُبلِ عرقها: وهي من طبقة الاشراف، آل الحمادى، ذوي الأصل والفصل في آبلا.

    حياتها اليومَ، غَدَت حياة الفتاة النبيلة والراقيةِ في آن واحد. حياةَ فتاة تتراوح أوقاتها بين أعمال الفضيلةِ والمثابرة على الكنيسة، ولكن من دون انقطاع عن التسليات المأنوسة، ولا عن المعاشراتِ التي تتلاءم مع وضعها وطبقتها. وجمَّعَ مقتضياتِ الدين والدنيا، ليس بالأمر المستحيل، إذا تقيّد المرء بسنن الآداب المسيحية. وتريزة الفروسية بطبعها، وابنةُ الاتقيال بقلبها، كان لا بد لها من عَجْمِ كلا الجوين: الديني والدنيوي، قبل ان تنتقي لها السبيل السوي الذي فيه ارادةُ الله.

    في هذه الايام سافر بعضُ اشقائها الى اميركا الجنوبية. وتيارُ الهُجرة جرفهم الى ما وراء البحار، كما جرف الكثيرين من ذوي الدم الأزرق، من آبلا ومن سائر المدن الاسبانية. في تلك الحقبة من التاريخ، كان للهند الثانية جاذبيةٌ، لا تتمالكُ حيالها، نخبةُ الشبابِ الاسباني عن القذف بأنفسهم الى بلاد الغَيْبِ، والمجهولِ والمغامراتِ، شِبعاً لصدورهم التي تَخفُقُ تيهاً وحماسا للإنتصارات والبطولات الغَيرِ المسموعة، التي يأتي بها، هناك، مواطنوهم، الفاتحون الأول.

    تريزة، وقيودُ الأخُوَّة تتقطَّع عنها، باغتراب اشقائها، تدخل الاحدى والعشرين. أفكارها ما برحاْ تنصقِلُ يوما عن يوم. وبعودتِها الى والدها من عندِ شقيقتها، كان لا بد لها من المرور بعمها: D.ledro Sanchez de Copeda وهو رجلٌ مُترمِّل، فاضل، وأليفٌ لقراءة الكتب التقوية، كان يسكن في Ortigosa. وعلى الرغم من ترمله، وكِبَرِ سنه، قد تركَ كل مقتناه، وانضم الى رهبانية القديس ايرونيموس.

    هذا العم المتقشفُ، والعابدُ لله، استوقفَ تريزة عنده بضعة ايام. وكأني به تفرس في نفسية ابنة اخيه وقعاً حسنا لكلامه: فأخذ يقرأ لها الكتب التقوية ويحادثُها عن الله، ويحثها على ترك الدنيا والترهب. ولما كان يَكِلُّ من القراءة، كان يناول تريزة الكتابَ، وهي – وان عن غيرِ نفسٍ طيبة- كانت ترضيه، فتقرأ له وهو ناصت، ويقاطع القراءَة، من حين الى حين بشروحاته وتعليقاته.

    من هذه القراءات انجلت لتريزة حقائق غُرِسَت في قلبها وهي طِفلة. أعني: فهمت زوال كل شيء. وبطلان العالم. وسرعة زوال كل ما فيه. لا سيما، هذا الاعتقاد : اني لو متُّ ساعتي، لذهبت الى الجحيم (حياتها: ف 3- 5/6). هذا ليس يعني بعدُ انها قررت دخول الدير. لكنها كانت تتحقق ان هذا لهو النصيبُ الأصلح لها. "بقيتُ، تقول في كتاب حياتها، في هذه المحنة ثلاثةَ اشهر، أحاولُ اقناعَ نفسي بنفسي، ببراهين كهذه: أن عذابات، ومشقات الحياة الرهبانية، لا يمكن ان تكونَ أشد من تلك التي تنتظرنا في المطهر، واني، قد استحقَقْتُ فعلاً نار جهنم: ولذا، ليسَ بالامر الكثير عليَّ، لو قضيتُ في ارجاء الدير، كفي مطهر، سحابة عُمري، لأني بعدئذ، سأنتقل منه تواً الى السماء: وهذا كان ذروة حنيني! اما الشيطان، فكان يعارضني، بأني لن أقوى على تحمل قساوة الأنظمة الرهبانية بسبب نحافة مِزاجي. ولكني كنت أدفعه عني بتمثّلي العذابات التي قاساها المسيح، وبأنه ليس بالكثير علي أن أقاسي، انا ايضا، بعضا حبا له، بالاضافة الى ان نعمة الله ستعضدني في تحملها" (حياتها : و3-6).

    طيلة هذه المحنة كانت تقرأ رسائلَ القديس ايرونيموس. ومنها استقت العزمَ والحزمَ...وأخيراً، ونهائياً الترهبَ؛ فصارحت اباها بما اختلجَ ونضجَ في صدرِها.

    اما دون الونسو، ذُو الرأسِ المكلَّل ببياضِ الشَيْب، والناظر الى اعتاب الأبدية اكثرَ منه الى اي شيء آخر، فلَم يوافق قطعا على طلب عزيزته. تفكيرُ تريزة وتفكيره كانا تِمَّ نقيضين. لكَم وكَم من مرة غازلته هذه الفكرة: انَّ تريزة ستكون بجوارَه عصىً لشيخوخته! انها ستُملي الفراغ الذي يتضوّرُ به قلبه العطوف، من فُقدان زوجته في صباها، وبُعدِ ابنته دونيا ماريا عنه، واغتراب خيرة شبابه الى ما وراءَ البحار!... كيفَ يَطوق دون ألونسو، الرقيقُ الشعور، غيابَ وجه تريزة عن عينيه اللذين طالما اكتحلا بمُلامسة محياها الصَبوح! كيف السبيل الى مفارقته اياها، وهو بدونها، لا يقوى على عِبءِ الحياة؟ من انيسُه سواها؟ من يُجلي عنه الكُربة والهم؟ من يَمدّ له اليد الحنونة، الناعمة في عَوَزِه في شيخوخته اليومَ؟ وفي قصرِهِ في هرمِهِ غداًُ؟ من الأَولى – سواها – بحظوةُ آخر قبلته، وآخر رضاه، وآخر نظرة من نَظريه الشاحبتين، قبل أن ينطفىء النور عنهم؟ من سيُغمض له جَفْنَيه...؟ ليس غير تريزة! لقد اكتنفها بمحبةٍ فريدة. وبذل في سبيلها ما لم يبذله لسواها من أشقائها. هي موضوعٌ احلامه. هي مُلتقَى آماله. لا ! ... لا... انها لا يجبْ ان تُغادِرَه، كما ولا يجِب ان يرضى عنها!

    هكذا، وبلمحة بصَر، تماثلت هذه الخواطر حِيالَ باله، متراكضةً تارةً ومتراقصةً أخرى، كأنها أطيافٌ هزيمةُ، تستحي من ان تُطِلَّ على وَعْيِهِ الذي لا يستطيع التسليمَ بها، ولا رَدْعَ واقعيتها عن التحقيق.

    تريزة، تعلم بنقطة الضعف في والدها: أنه الرجل المسيحيُّ الصرّاح، الذي تمشيا مع مبادئه، لا يجب أن يعارِض خطتها. فهاجمته من هذا الباب. لكن دون الونسو، على رغم تدينه، وقراءاتِه التقشفية والتنسكية، لم يستطع أن يتغلَّب على عاطفته. فتصلَّب في موقفه، على غير عادتِه. وجُلَّ ما آل اليه الحوار بينه وبين ابنته: انها بعدَ موته، لطليقةٌ الحرية ان تفعل ما تشاء. تريزة لم ترمِ سلاحَها. لقد اعتزمت دخول الدير، وقالت كلمتها الفصل، أمام الله وأمام وِجدانها. وكلمتها ليس لها من ثانٍ. بل يدعَمَها في عِنادها هذا: "نَعْرَةُ الشرف"، المليئة هي منه، وإذ كانت تتوافر لها الأساليب لإقناع والدها المصِرّ، وتعلم أيضاً جيد العلم بما يَتثنّى في حنايا والدها، لم تُعتّم ان روَّقت خاطره. وبالرغم من انها لم تَنَل منه جوابا صريحاً يأذن لها في دخول الدير، فهِمت انه ليتحمل بصبر مثالي فِراق أعز أولاده، فيما لو غادرت المنزل بدون سابق علمه.

    ومن فيض فطرتها الإندفاعية الى نشر كل ما فيه خيرٌ وصلاح – هذه الخَصْلة التي طالما نبضَ بها قوياً، قلبها الخيِّر المعطاء – وبينما كانت تتحيَّن الفرصة السانحة للخطوة الحاسمة، اقنَعت شقيقها انطونيو Antonio وهو اصغر منها سنا بخمس سنوات، بالانخراط هو ايضاً في السِلك الرهباني. وفي الصباح الباكر، من اليوم المتوافَق عليه، غادرا خلسةً الدار الوالدية، فتريزة باتجاه دير التجسد؛ وانطونيو بعد ان رافق شقيقته الى اعتاب الحصن – الى دير القديس توما.

    هو ديرُ التجسد، الدير الذي أوَتْ اليه تريزة، اليوم! وهو مَهيبُ المنظر، جميل البنيان، واسعُ الارجاء. يربِضُ في واد صغير من الجهة الشمالية من آبلا، عاصمة الفروسة، وخارجَ الجدار التاريخي، والرمادي اللون، الذي يُساور المدينة، ويُجلْبِبُها بالهيبة والتحدي، جاعلاً منها حصنا منيعا اكثر منها مدينةً نبيلة.

    ثمَّ، كانت مشيئة الله ان يَستأدِيَ الصداقةَ التي تربط تريزة براهبة من الدير: اسمها خوانا سوارز Juana Suarez ليجذبَ اليه (ليسلب) المرأة التي سيُعهدَ اليها اصلاح الرهبانية، والتي ستقود، فيما بعد عملية الاصلاح الى ميناء التحقيق.

    دون الونسو، لما بلغه هرب ابنته، دَمَعَتْ مُقلتاه؛ وتقبض قلبه؛ واعتراه دُوار، من صدمة الفراغ الذي تركته بفرارها اعزّ اولاده. لكنه، لم يلبثْ ان استسلم الى مشيئة الله. ولا تريزة نفسُها باتت اقلَّ شعوراً منه بمرارة الفِراق: "أتذكَّر- تقول في كتاب حياتها – والصورة تتماثل لي الآن بكامل واقعيتها، اني لما غادرتُ بيت والدي، شعرت بالم لا أعتقد انه سينتابني نظيره ولا في ساعةِ الموت!... كنت أتحسس، وكأني بعظامي تنفصل: كل عظم عن أخيه! وبما أن محبتي لله لم تكن لتقوى على عاطفتي نحوَ والدي وأقاربي، فذُروة نِزاعي تلخَّصت في ضغط لنفسي واجهاد عظيمتين، لدرجة اني، لو لم يُمدَّد الله يد المعونة، لما آلت بي جميع اعتباراتي الى دفعي خَطوة واحدة نحو الدير" (ف 4).

    اتّشحت تريزة بالثوبِ الكرملي، في ال2 من تشرين الثاني، سنة 1536، عَقِبَ بضعة ايام من دخولهاالدير، وهي ابنة 21 سنة، 7 أشهر وخمسة ايام. وساعة لُبسِها الثوبَ الرهباني، أفهمها الله، بإيحاء منه تعالى، وافرَ اثابته للذين يتجاهدون في سبيله. ورؤيتُها مزدانةً بثوب العذراء، أفعمتْها سروراً عظيماً، ما برِحتْ تتذوقه طيلة ايام حياتها، بل ظل ينمو ويتزايد حتى موتِها السعيد.

    وليس بالامكان سَرْدُ جميع المحن الداخلية التي تعاقبت على روحِها، في سنة الابتداء. سيما تلك التي تَمُتُّ بصلة الى حبها الذاتي، كرَميها بتُهم هي بريئة منها، وما شابهها، لأنها تَسرِدُها، هي ذاتها، بسذاجة فتَّانة في كتاب حياتها. تقول :"...في سنة الابتداء عانيتُ محَناً مرة من اسباب، بحدِّ ذاتها لا يجب ان يُؤبَهَ لها. فكان الراهبات يُقرِّعنني، عن غيرِ ذنب مني. وكنت أتحمَّل التقريعات، بكآبة ونقصٍ عظيمين، على رغم ان سروري بكوني راهبةً، كان يُساعدني على المرور فوقَ ذلك كله. واذ كُنَّ يلحظنني اسعى للإنفراد، او يَرينَني احياناً اذرِف الدموعَ، آسفةً على خطاياي، كن يعتقدنَ اني غيرَ راضية بحالتي، ويتباحَثنَ في ذلك فيما بينهن. كنت

    أهم الأحداث في حياتها/إعداد الأب البير أبونا

    1515: في 28 آذار في مدينة آفيلا (إسبانيا) مولد تريزا دي أهومادا أي ثيبيدا. عُمِّدت في 4 نيسان، يوم تدشين دير التجسد للراهبات الكرمليّات في المدينة.

    1522: محاولة هربها مع أخيها رودريغو إلى "بلاد المغاربة" للإستشهاد.

    1528: موت والدتها بياتريث دي أهومادا.

    1531: دخولها دير ومدرسة سيّدة النعمة كطالبة داخلية.

    1528-1531: إقبالها على مطالعة كتب الفروسية.

    1532:مرضها وخروجها من دير سيّدة النعمة.

    1533-1535: نضوج دعوتها الرهبانيّة بتأثير صحبة عمّها بدرو ومطالعة رسائل القديس إيرونيموس.

    1535: 2 تشرين الثاني: هربها من البيت ودخولها دير التجسد.

    1536: 2 تشرين الثاني: إتّشاحها بالثوب الرهباني.

    1537: 3 تشرين الثاني: إبرازها النذور في دير التجسد

    1538: مرضها الخطير: تخرج من الدير للمعالجة؛ تطالع الأبجدية الثالثة للاريدو.

    1539: تعود في تموز إلى آفيلا. قبيل عيد انتقال السيّدة (15 آب) تُصاب بغيبوبةٍ طويلةٍ أربعة أيام فيظنّونها ميتةً. ثم تستفيق، وتعود الى دير التجسّد، وتبقى ثلاث سنوات كأنها كسيحة.

    1541: اغناطيوس دي لويّولا يؤسِّس جمعية اليسوعيين.

    1542: شفاؤها بفضل القديس يوسف. ولادة خوان دي ييبس (القديس يوحنا الصليبي).

    1543: موت والدها، بناءً على نصيحة معرِّفِها الأب بارّون، تعود إلى حياة التأمّل.

    1544- 1554 حياة تريزا تتأرجح بين الحرارة والفتور.

    1554: أمام تمثال المصلوب المثخن جراحاً تحوُّلٌ جذريٌ في حياتها.

    1554-1560: تتضاعف الظواهر الخارقة، كالانخطافات والرؤى والأحاديث، وتأمّل السكينة والإتحاد.

    1556: نعمة الخطوبة الروحية.

    1557: لقاؤها القديس فرنثيسكو بورخا (فرنسيس بورجيا).

    1559: أول رؤيا حظيت بها عن المسيح. رئيس محاكم لتفتيش يمنع الكتب الروحية باللغة الإسبانية لمحاربة المُنوَّرين alumbrados، وهم جماعة من المشعوذين.

    1560: رؤيا جهنَّم. رؤيا الكاروبيم يطعنها الحبّ الإلهي. مشروع تأسيس دير القديس يوسف للإصلاح . لقاء القديس بدرو دي ألقنطره. تكتب التقرير الأول. رؤيا المسيح القائم من الموت.

    1562: تقضي فترةً في منزل السيّدة لويسا دي لاثيردا في توليدو. حزيران: تنتهي من وضع كتاب السيرة. آب: تأسيس دير الإصلاح على اسم مار يوسف في آفيلا. تباشر كتابة طريق الكمال.

    1563: آب: تنتقل إلى دير القديس يوسف، حيث تكتب رسوم الراهبات الكرمليّات الحافيات.

    1565: تنتهي من كتابة السيرة، صيغةً ثانيةً أي الحالية.

    1566: تكتب خواطر في حبّ الله.

    1562-1567: فترات راحة وسلام وتأليف في دير مار يوسف في آفيلا. شعورها بضرورة وجود رهبان يمارسون نمط الحياة السائد في دير القديس يوسف.

    1567: رئيس العام يفوِّضها تأسيس أديرة مثل دير القديس يوسف. آب: لقاؤها الأب يوحنا للقديس متيّا، وإقناعُه ببدء الإصلاح بين الرهبان. سلسلة الأديار المؤسَّسَة:

    1567: مدينا دِل كمبو.

    1568: مالاغون-فاليادوليد. دورويلو للرهبان.

    1569: توليدو وبإسترانا.

    1570: سلمنكا.

    1571: البا دي تورمِس. تُعيَّن رئيسة على دير التجسد في آفيلا.

    1573: تباشر تدوين التأسيسات.

    1574: سيقوفيا. تعود إلى دير مار يوسف.

    1575: بياس وأشبيلية. قضاة التفتيش يصادرون مخطوط كتاب السيرة.

    1577: 2 حزيران – 5 تشرين الثاني: تكتب المنازل أو القصر الداخلي. يشتدّ الاضطهاد على تريزا وراهباتها ورهبانها مدّة سنتين، ثمّ بعدها تكوينُ اقليمٍ مستقل للكرملِّين الحفاة.

    1579-1582: زيارة الراهبات وتأسيس الأديار.

    1580: تأسيس دير فيلانويفا.

    1581: تأسيس دير صوريا. انتخاب تريزا رئيسة على دير مار يوسف.

    1582: نيسان: تأسيس دير بورغوس.

    20 أيلول: تصل مريضةً منهوكةً إلى ألبا دي تورمِس Alba de Tormes، وتلزم الفراش. 4 تشرين الأول : عند التاسعة مساء تفيض روحها "ابنة الكنيسة".

    1583: يُفتح التابوتُ ويُنقل جثمانُها إلى آفيلا. نشر كتابها طرق الكمال.

    1586: بأمرٍ بابويّ يُعاد إلى البا دي تورمِس حيث يَرقد الآن.

    1588: نشر مؤلفاتها الكاملة بدعم الأب يوحنا الصليبي، وإعداد الأب لويس دي لِيُون الأَغسطيني.

    1614: البابا بولس الخامس يعلنها طوباوية.

    1622: البابا غريغوريوس الخامس عشر يعلنها قدّيسة.

    1970: 27 أيلول البابا بولس السادس يعلنها أول امرأة "معلّمة الكنيسة".[1]